تحيلنا أطوار ومشاهد الانتفاضة المصرية الى تفاصيل الثورة التونسية بكلياتها وجزئياتها، كما تدفعنا حيثيات الهبة المصرية على الاستبداد والفساد الى الاعتبار بأن التجربة التونسية في النهوض والثوران تجاوزت مرحلة المثال والنموذج وأصبحت قاعدة جماهيرية في استرداد الحقوق وتنظيم الصفوف والتضامن بين الأجيال للحيلولة دون الفوضى والانفلات. الحديث عن «التقعيد الثوري» لا نعني به البتّة اختزال الهبات الشعبية في «النموذج التونسي» ولا الادعاء بأن الأخير استطاع أن يجمع كل النماذج الثورية في العالم، ولا أيضا استبعاد الخصوصية الأنثروبولوجية والتاريخية لكل شعب من الشعوب وإنما نعني بهذا المصطلح «التقعيد الثوري» أن الانتفاضة التونسية تحمل طياتها «تفاصيل حتمية»، أصبحت حتمية نظرا للسياق التقني المتطور ولطبيعة الأنظمة العربية ولعلاقة النظام العربي بثلاثية الاستبداد والسلاح والفساد المالي. لا بدّ لكل ثورة أن تتضمّنها حتى يكتب لها النجاح في هذا الوقت على الأقل، قبل أن تتغيّر السياقات فتبدل معها الأساليب والأدوات. من بين«الحتميات» الانعتاق من بوتقة الأحزاب والعمل التنظيمي السياسي لا سيما أنها أصبحت أي الأحزاب العربية لا تخرج عن 3 أمثلة بائسة فإما حزب يستبدّ بالدولة ويحتويها وإما حزب يرتضي منطق المعاضدة للحزب الدولة ويقبل بتشويه صورة المعارضة السياسية الحقيقية وإما حزب معارض حقيقي يتحول بصيرورة الأيام والسنوات الى حزب بيانات و«انشقاقات». من بينها أيضا الاعتماد على فضاء منفتح على كافة التيارات والحساسيات ولا يحسب على أيّ منها يتيح لكل الناس التفاعل فيه وتبادل الآراء. قد تكون المواقع الاجتماعية الافتراضية اليوم أحسن مثال عليه، وذلك لأن هذا الفضاء لا يسمح ليد السلطة وذراعها الاعلامي أن تبسط هيمنتها عليه. من بينها أيضا الوضوح في الشعار السياسي والاقتصادي والاجتماعي حتى لا يبتسر والمصابرة على هذه المطالب حتى لا يلتف عليها بأنصاف الحلول. ومنها أيضا: تحمّل مسؤولية استتباب الأمن وضمانه وعدم تركه في يد الأجهزة الأمنية (من شرطة وغيرها..) التي اقتصرت في مهامها على حماية النظام ومن يمثله وليس الدولة ومؤسساتها. وأخيرا، التفرقة بين جهاز الجيش وجهاز الشرطة والسعي الى الالتحام مع الأول وعدم استعداء الثاني» مع التأكيد على أن الثورة ملك للجميع وأن نجاحاتها كما ويلاتها لا قدّر اللّه لن تستثني أحدا أبدا. كثيرون هم الذين هالهم حجم التوافق والتماهي القائم بين الهبّتين الشعبيتين في تونس ومصر ولكن قليلين هم الذين تساءلوا عن أسباب هذا التقاطع الواضح. إن جاز للنظام البائد أن يفخر بشيء فإنه في تقديرنا من «حقه» أن يفخر بحكم شعب جمع، خلال 23 سنة على الأقل، أسباب الثورة ومقدرات الانتفاضة وحوّل الهبّة الشعبية من حلم الى حقيقة» بل وصيّرها من نموذج الى قاعدة، ومن يدري فقد تتحوّل الى مدرسة تونسية في الانتفاض.. وما ذلك على اللّه بعزيز.