تعدّ الثورات أرقى و أعظم أشكال الإبداع الإنساني الجماعي المتزامن في أداء الأفراد من كل الأجيال والفئات والجهات، قياسا إلى كل ما أبدعه الأفراد كل على حدة في كل التاريخ... فالثورة هي إبداع الحرية.. وظاهرة الثورة تحدث نادرا مرّة في العصر على امتداد تاريخ ما قبل انجاز المجتمعات المدنية في الدول الديمقراطية ذات الحوكمة الرشيدة، حيث لم تعد الثورة واردة هناك ما دامت العلوية للقانون والاستقلالية للقضاء والسلطة لأغلبية منتخبة بلا تزييف. وثورة الحرية والكرامة بتونس في 14 جانفي 2011 اتسمت بخصوصية تاريخية جسّدت إحياء أفكار الإصلاح والنهضة التي وقع إجهاضها طوال قرن ونصف، وأيضا جسّدت تونسة قيم وجوهر الحداثة بل وتعتبر أم الثورات العربية بسرعة إشعاعها من خلال انتصار الشعب المصري في تحقيق ثورته وقائمة الثورات المقبلة مفتوحة.. رغم أنّ الثورات لا تصدّر ولا تورّد. في هذه المساهمة أحاول أن ألخّص المفاهيم ذات الصلة بالانتفاضة والثورة والفوضى والانقلاب العسكري وذلك في الزمن الحديث والمعاصر. أولا) حركات أو ثورات التحرّر الوطني هي عبارة عن أعمال مقاومة شعبية مدنيّة ومسلحة تجمع بين توظيف السياسة والكفاح المسلح ضدّ الاحتلال أو الاستعمار الأجنبي وذلك بهدف طرده وتحرير الوطن، ومثال ذلك حركة التحرر أو الثورة الجزائرية أو الفياتنامية. ثانيا) ظاهرة الانقلابات العسكرية عمّت ظاهرة التغيير الفوقي بواسطة الانقلابات العسكرية لعقود طويلة في قارتي إفريقيا وأمريكا اللاتينية بل وسادت في غالبية الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية حيث يقع استبدال رأس النظام وأعضاء الحكومة وتعيين عدد كبير من الضباط في المسؤوليات التنفيذية والمدنية، وترفع الأنظمة الانقلابية شعارات «ثورية» للتغطية على مصادرة الحريات والحقوق وعدم تغيير السياسات والفشل في تحقيق التنمية، وعادة يسود حكم الحزب الواحد التابع للسلطة والرئيس يتولى الحكم لعقود عديدة إلى أن يموت أو يزاح بانقلاب عسكري و يمسك بالسلط الثلاث كما لا علوية للقانون أو الحق. ثالثا) الثورات في الزمن الحديث والمعاصر كثيرة هي الانتفاضات خلال القرون الثلاثة الماضية في مختلف أصقاع العالم و قد وقع إخمادها في المهد أو وقع إجهاضها لذلك لم تتحول إلى ثورات. وهناك انتفاضات قليلة اتسع نطاقها وتمكنت قياداتها وساعدتها الظروف على أن ترتقي في أدائها وفي إشعاعها وانجازاتها إلى مستوى الثورات ونذكر الأمثلة التالية عنها : 1) الثورة الانقليزية (الأولى) 1641-1649 وقد استمرت ثماني سنوات بين الشعب وبين الملك المتحالف مع الإقطاعيين والنبلاء ورجال الكنيسة 2) الثورة الانقليزية (الثانية) 88-1669 وقد اتسمت بالاقتصار على الوسائل السلمية دون العسكرية 3) الثورة الفرنسية 1789 وتعد من أعظم الثورات لأنها انتصرت لأفكار التنوير وحقوق الإنسان والحريات والسبق إلى استنباط ووضع النظم الحديثة والقوانين الوضعية وهذا ما جعلها ثورة ذات إشعاع كبير فأثرت في التاريخ الأوربي والعالمي. 4) الثورة الفرنسية لسنة 1830 5) الثورة الفرنسية لسنة 1848 6) الثورة الروسية لسنة 1905 7) الثورة الروسية البلشفية 1917 والتي دشنت وقادت ولمدة 70 عاما ما أسمي بالاقتصاد الموجه (أو الاشتراكي الشيوعي في ظل الحزب الواحد). 8) الثورة الإيرانية لسنة 1979 وهي ثورة شعبية عظيمة وان انتهت في نظر المؤرخين والديمقراطيين الإيرانيين و غيرهم إلى إقامة نظام تيوقراطي و طائفي عوض إقامة نظام ديمقراطي تعددي وغير طائفي. ويدخل في سياق الثورات المعاصرة ثورات شعوب اسبانيا بعد فرانكو، والبرتغال بعد سلازار في سبعينات ق 20 وثورات الأوكرانيين منذ بضع سنوات. رابعا) ظاهرة الانتفاضة الانتفاضة هي غير الثورة أو هي هبّة شعبية محدودة أو عارمة (يمكن أن تتحول إلى ثورة). تحدث ظاهرة الانتفاضة بشكل مفاجئ كردّ فعل ظاهريا ضد حدث عابر آو طارئ ولكن في الحقيقة هو رد فعل لما هو متراكم من الأسباب المسكوت عنها، وهي أيضا عبارة عن تحرّك شعبي غاضب ضد ضغوط يصعب تحملها، والانتفاضة تحدث في شكل عصيان ضد القوانين والنظم السائدة وتكون لها أهداف محدودة أو محددة بحسب الأسباب ذات الصلة بإشعال الانتفاضة على الأقل في بداية انطلاقها. ويقابل استعمالنا في العربية للفظة الانتفاضة لفظ soulèvement وكذلك révolte في اللغة الفرنسية، ومنذ أن قام الشعب الفلسطيني عام 1987 بانتفاضة ضد الاحتلال الصهيوني واستعمل الحجارة فيها وهي السلاح الوحيد المتاح (وقد حصلت انتفاضة فلسطينية أخرى عام 2000) تحوّل هذا اللفظ إلى مصطلح سوسيولوجي وسياسي في اللغات الحيّة ودخل إلى قواميسها ويكتب فيها بلفظه العربي intifada . في سنة 2008 حدثت انتفاضة عارمة في الرديف و لم تتطور الى ثورة فقد اخمدت بفعل ضخامة و حصارقوة القمع. ومنذ أن أقدم الشهيد محمد البوعزيزي على التضحية والكرامة قامت انتفاضة أنصار الحرية والكرامة في سيدي بوزيد.. وانتفاضة أخرى في القصرين.. في تالة وهكذا حتى انتفضت كل جهة وكل مدينة.. وحين توحّدت كل الانتفاضات من كل المدن وكل الجهات ومن كل الأجيال والفئات كانت تلك الانتفاضات قد شكلت معا أو تحوّلت أو آلت إلى الثورة التي انتصرت يوم 14 جانفي 2011. خامسا) الثورة تعني الثورة النشاط الجماعي المتزامن، لأكبر عدد من الأفراد والفئات والأجيال بكل الوسائل المتاحة السلمية وحتى العنيفة (عند الاقتضاء) التي يبيحها القانون في زمن السلم أو لا تبيحها السلطة أو القوانين وهو نشاط ثوري ينجزه المجتمع بوعي وتصميم استثنائي لإنهاء النظام السائد والفاسد (الاقتصادي والاجتماعي والثقافي) غير القابل للإصلاح من داخله (وبطرق سياسية وسلمية و حتى باستخدام القوة)، واستبداله بنظام آخر مغاير يستجيب أو يحقق اكبر قدر من الانتظارات والحاجات لأكبر عدد ممكن من أفراد فئات ذلك المجتمع.. أي نظام الثورة ينجز التنمية الشاملة بمنطق عصرنا... تبدأ الثورة كوعي في العقول ثم كفعل في الواقع وكتغيير في التاريخ.. تبدأ أولا كوعي بضرورة الخلاص من الخوف ثم التخلص من الفساد والاستبداد كنزوع للحرية ثم حياة في الحرية..