بقلم يوسف اسماعلي (دكتور في التصرف) ككل مواطن تونسي أتابع الأحداث التي جرت بتونس منذ الشرارة الأولى لثورتنا المباركة التي صنعها شباب تونس الأبي والشجاع ، المتابعة كانت مشحونة بكل أنواع الأحاسيس : أمل ، تطلع الى الحرية والى الأفضل ، خوف رهبة ورغبة في التصدي لمحاولات بقايا الميليشيا التابعة للنظام السابق للسطو على هاته الثورة حتى يقع اجهاضها وتثبيت مصالحهم الخاصة على حساب الشعب. هاته الرغبة كانت مصحوبة بالتفكير في السبل الناجعة حتى لا تسرق منا ثورة الكرامة وترجمة هذا التفكير بكتابة مقالين ومحاولات لنشرها في الصحف التونسية، لكن المحاولات باءت بالفشل لسببين اثنين : يبدو أن شكل المقالين ليس على مقياس المعتاد به في الصحف ( الكلمات والأسلوب المستعمل ليس بالبراق والمثير) من جهة والتسارع الجنوني للأحداث الذي يجعل جانبا من المحتوى تتجاوزه الأحداث من جهة أخرى وها أنا من جديد أحاول مسايرة الأحداث الأخيرة وكتابة مقال ثالث لعله يجد حظا أوفر للنشر. آخر الأحداث تتمثل في اعتصام من جماهير الشعب، الآتي خاصة من وسط جنوبتونس أمام مقر الحكومة وفي استجابة حكومة الغنوشي لكثير من مطالبها وأخيرا في تهميش وقمع هذا الاعتصام بالقوة، من جهتي، وفي البداية لقد توسمت خيرا بتحوير الحكومة (بالرغم من أنه كان بالإمكان أحسن مما كان)لهذا السبب : الى جانب كفاءة كل عضو من أعضاء الحكومة الجديدة والمؤقتة، يبدو أن كل أعضائها يملكون النزاهة والإرادة الكافية لتسيير البلاد في الاتجاه الذي يرتقي اليه الشعب، وحتى وان كان بعض من الأعضاء تشتم منهم رائحة التجمع أو حكومات بن علي السابقة فكما يقال:« الباهي والخايب موجود في كل بقعة». ولكن تفاؤلي وفرحتي بهذا التحوير لم يدم سوى يوم واحد ليسود من جديد الشعور بالغموض وبالخوف من السطو الخفي على مكاسب هاته الثورة فما معنى تشويه صورة المعتصمين بالقصبة الذين بفضلهم وقع هذا التحوير الجيد( من دون أن ننسى دور الاتحاد العام التونسي للشغل)? وما معنى الرجوع الى استعمال القوة والقمع المشين من طرف بعض من أطراف الأمن ?فهل هذه تمثيلية من انتاج واخراج حكومة الغنوشي (فلا أعتقد أن الشعب اقتنع بتبريرات وبرواية وزير الداخلية) أم أن الحكومة لم تستطع الى حد الآن معرفة وضبط الفيالق المخربة من الأمن الوطني والسيطرة عليها? حقيقة لا أستطيع معرفة الجواب الصحيح لافتقادي للمعلومات الميدانية والصحية لما يجري بتونس لكن وفي كلتا الحالتين يدق ناقوس الخطر، الحكومة ، ان كانت حقا جادة في القضاء والقطع مع رواسب ما قبل 14 جانفي تستطيع فعل أشياء بسيطة ومعنوية حتى ترتقي الى ثقة أغلبية الشعب، ان لم نقل كله، وبالتالي الى كسب مصداقيتها: أولا اللجوء الى المصارحة، وان كان الواقع مرّا، والى الشفافية، فمثلا ما الذي يمنعها أن تفسر للشعب الغياب شبه الكلي للشرطة، خاصة منها شرطة المرور، في الأحياء المدنية?. أخذ إجراءات من شأنها أن تبني ثقة المواطن بقوى الأمن بمختلف أشكاله حتىتدرك المكانة التي وصل اليها جيشنا الباسل والأغر فدور الأمن هو السهر على أمن المواطن وسلامته وليس البطش به وقهره، فمثلا كان على الأمن ابلاغ المعتصمين باستعداد رئيس الحكومة أن يتحاور مع مجموعة تمثل المعتصمين وضرورة التنحي جانبا بصفة وقتية عند دخول أعضاء الحكومة الى مقرها وعند خروجها منه ، هذا كان كافلا ليبدد الشك في مصداقية الحكومة، لقد أثبت الشعب التونسي وعيه ونضجه السياسي والحضاري ومن خلال المظاهرات والاعتصام كانت كلها سلميةو التجاوزات كانت مأجورة ولم تكن البتة من صلب الشعب، استعمال البطش والقمع على هذا الشعب الأبي، مهما كانت الأسباب، لا يولد الا الشعور بالقهر والظلم والاهانة، وبالتالي الى الرجوع في وقت لاحق الى المظاهرات والى الاعتصام وان لزم الأمر الى الثورة من جديد، حتى ان أمكن القضاء على هذا الاعتصام. القوى الأمنية تستطيع تفكيك الاعتصام ولكن لا تستطيع أبدا اجتثات ما يختلج في الصدور . ثالثا اقدام رئيس الحكومة السيد محمد الغنوشي على قرار يدخل من بابه التاريخ ويبرهن من خلاله على شجاعته ونزاهته واحترامه لمشيئة الشعب يتمثل القرار في تسليم مشعل رئاسة الحكومة الى شخصية مستقلة ذات نزاهة ومقدرة عالية من غير أن ينسحب كليا من الحكومة بأخذ خطة مستشار أول لرئيس الحكومة الجديد( المتفق عليه من طرف جميع القوى الحية) له صلاحيات النصيحة دون امكانيات في أخذ القرارات. هذا الاقدام التاريخي حقا وهاته الإجراءات لهما عدة ايجابيات، من أهمها ابعاد كل احتمال من احتمالات تدخل الغرب في مشيئة الشعب ، خاصة أمريكا التي سعت الى أن تثبت كمال مرجان كمنقذ لتونس حتى يتسنى لها أن تخدم مصالحها على حساب تونس ونموها وكرامتها وبهاته الخطوة الجريئة يمكن الاستعانة بخبرته ومعرفته الدقيقة بخفايا التحرك السياسي والإداري وبذلك نعطي له فرصة للطمأنينة وللبناء وربح الوقت عوض الهدم بسبب الاقصاء التام والخوف من المستقبل، ومن هذا المنظور تكسر شوكة الشك وبالتالي سيقدر الشعب ما أقدم عليه السيد محمد الغنوشي ويكون التفاهم والثقة والتسامح سيد الموقف ويجب أن تتعهد الحكومة الجديدة بالتسامح مع كل العناصر المنسحبة طوعا من الحكومة المؤقتة التي وقع تشكيلها في المرة الأولى لما فيه خير تونس، وحتى نضمن النجاعة لعمل الحكومة التي تم تحويرها بهذا الشكل نقترح الإجراءات والمبادئ الآتية: 1 رسم الأهداف وخاصة الهدف الرئيسي للحكومة الجديدة المؤقتة ألا وهو ارساء وبناء ديمقراطية ثابتة وراسخة على أسس صحيحة ومتينة دون أي هزة أو رجعة الى الوراء. 2 اعطاء الوقت الكافي لتعمل اللجان والحكومة الجديدة بنجاعة: قرابة ستة أشهر، فلا للتسرع ولا للتلكؤ والتمطيط. 3 يجب أن تتوفر لرئيس الحكومة الجديدة المؤقتة وحتى للرئيس العادي للبلاد الخصال الآتي ذكرها: النزاهة أولا حيث أن سعادته تكمن في خدمة واسعاد الشعب، امتلاك عدة كفاءات علمية (فنية، اقتصادية وسياسية)، سهولة وسلاسة في التعبير، والقدرة على جلب الاحترام والمحبة (دون استئذان) من خلال الشكل والمضمون. 4 الاستعانة بخبراء ثبتت نزاهتهم وكفاءتهم العالية بالتجربة الملموسة كمنصور معلى في خطة استشارية ذات حساسية كبرى في الاقتصاد وفي المالية. 5 تشريك رموز الثورة أو من مهد لها في تركيبة الحكومة الجديدة المؤقتة وفي اللجان الثلاث التي وقع تبنيها وتثبيتها. 6 الموافقة على مبادرة السادة بن صالح والمستيري والفيلالي وتنشيطها. 7 المنتمون لأي حزب سياسي الذين سيكونون ضمن عناصر اللجان أو عناصر الحكومة الجديدة المؤقتة لا يحق لهم البتة في الترشح في الانتخابات التنفيذية أو التشريعية في المستقبل، بذلك نبعد كل الشبهات حول نية «تقسيم الكعكة» وكذلك on ne peut pas être juge et parti. 8 على كل وزير أن يختار من بين اطارات وزارته الكفاءات النزيهة القادرة على تسيير مصالح وزارته في الاتجاه الصحيح المطابق للثورة واعطائهم صلاحيات أخذ القرارات، ويجب أن يبعد عن هذه الصلاحيات، ولو بصفة وقتية، كل من عرف عنه عدم قدرته على التخلص من رواسب أساليب التجمع البالية. 9 جعل القنوات الاعلامية، وخاصة التلفزية منها،أداة حوار واتصال بين الشعب والحكومة حتى تكون القرارات في مستوى آمال الشعب، مشاركة الشعب، الذي هو أدرى بمشاكل الحياة العملية في صنع القرار هو ضروري حتى يكون عمل النخبة ناجعا فعليا وليس نظريا فمثلا، يجب على اللجنة المكلفة باعداد دستور جديد تشريك الشعب في الاختيارات الكبرى كنوعية نظام الحكم في تونس بالطريقة الآتي ذكرها: اجراء مناقشات في كل القنوات التلفزية التونسية يكون موضوعها الأول ايجابيات وسلبيات كل شكل نظام حكم: جمهوري، برلماني أو مزيج بينهما. استفتاء الشعب لاختيار النظام الأمثل الذي يراه اجراء مناقشات حول جزئيات وأحكام النظام الذي اختير من الشعب. اعداد ثلاثة اقتراحات مفصلة من طرف اللجنة ونشرها استفتاء الشعب لاختيار مقترح من بين الثلاثة. 10 أدعو في المستقبل وفي أي انتخابات الى الاعتماد على علماء النفس قصد التحقق من مدى نزاهة المترشحين ونشر نتائج الاختبارات 11 وأخيرا أدعو خاصة الى سيادة المبادئ الآتية: مبدأ الحوار واحترام الرأي المخالف وعدم الاقصاء مبدأ المشاركة الفعلية للشعب في الحياة السياسية عن طريق كل وسائل الاعلام وخاصة التلفزية منها. تجنب، بقدر الامكان، الآراء المسبقة على خلفية اللون السياسي أو على خلفية الانتماء الجهوي فكلنا تونسيون، وكما يقال: «الباهي والخايب موجود في كل بقعة». مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وتطبيق هذا المبدأ في كل المجالات: السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الاعلامية، الفنية، الرياضية إلخ...