تصلني أصوات أحبّةٍ كثيرين هذه الأيّام من مختلف مدن وقرى نفزاوة، من أمّ الصمعة وسوق الأحد وبشّري وطنبار وتلمين وقبلّي وغيرها من ثغور الحياة الصامدة في وجه التصحّر الصامدة في وجه النسيان، فإذا هم لا يرون ما يكفي من إشارات إلى كون أصواتهم مسموعة وصورتهم مرئيّة. أسمعهم على التلفون أو أقرأ رسائلهم أو ألتقيهم هنا وهناك فأستحضر حفيف الجريد وطعم التمر ومذاق الرقاق المغموس في الزيت. وسرعان ما تلتحم أصواتهم في وجداني بأصوات آخرين كثيرين من سيدي بوزيد والقصرين وقفصة والمتلويّ والرديّف والمظلية وأم العرايس، وكذلك من بلاد المرازيق إلى بلاد الجريد، ومن جبنيانة إلى بني خداش، ومن بنقردان إلى بنزرت والكاف وباجة وسليانة والقيروان، ومن مدنين إلى تطاوين وقابس وصفاقس وجندوبة وغيرها من مدن وقرى أخرى عديدة في ولايات نابل والمهديّة وحتى في أطراف المنستير وسوسة وتونس الكبرى. أحبّة قاسمتُهم الماء والملح والحلم والجرح، ودخلتُ بيوت بعضهم، ورأيتُ أطفال بعضهم يولدون، وظللتُ على صلة بهم في الحياة وفي الكتابة باعتبارهم من مفردات ذاتي، وكتبتُهم بأكثر من طريقة وأنا أكتب نفسي، فإذا هم مرّةً «أطفال الشوارع» المدعوين إلى التجمّع، ومرّة «أزهار الغضب»، ومرّة «الناس اللي تعاني ونساتهم الأغاني». وليس من شكّ في أنّ لدى هؤلاء وغيرهم أكثر من سبب للتفاؤل. وهو تفاؤل لا ينفي ضرورة الحذر لكنّه مبنيّ على مسار ناجح حتى الآن على الرغم من دعاة التخويف والإحباط. ومن الطبيعيّ أن يستوجب هذا المسار تشخيصًا دقيقًا للأولويّات لتحديد ما هو عاجل وما هو آجل. ولعلّ من بين الأولويّات العاجلة ما يتعلّق بالبعد الرمزيّ إلى جانب الأبعاد الإجرائيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وغيرها. فقد التقط الشعب رمزيّة فعل التحرّر والاستنهاض الذي مارسه محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد تحديدًا، ورفعت الثورة هذا الفعل ومكانه إلى مرتبة الرمز المتوّج لأرواح كلّ من سبقه وتلاه من الشهداء، والمكان الناطق باسم كلّ الجهات المحرومة جرّاء تقسيم البلاد إلى مركز وهامش. هذه الرمزيّة بُعْد مهمّ من أبعاد هذه الثورة، ولابدّ من ترجمتها إلى رسائل فوريّة من ضمن قائمة الرسائل العاجلة المطلوب توجيهها إلى شعب الثورة. وأبناءُ المناطق التي طال تهميشها لا يطلبون المستحيل ولا يريدون كلّ شيء فورًا كما يروّج البعض، فهم يعرفون أنّ الثورة في بدايتها. لكنّهم يريدون إشارات عاجلة وواضحة مهما كانت رمزيّة، تفيد أنّ تهميشهم لن يستمرّ، وأنّ تقسيم البلاد إلى مركز وأطراف لن يستمرّ، وأنّ إبعادهم عن مواقع تقرير مصيرهم لن يستمرّ. ينطبق مثال المافيا على بنية النظام التونسيّ البائد. وكما يحدث في المنظومة المافيوزيّة تحتكر مجموعة أخطبوطيّة مقاليد الثروة والسلطة في ما يمكن تسميته بحلف الفساد والاستبداد. ويتمّ تعميم هذه الهرميّة المشوّهة على الجغرافيا أيضًا عن طريق احتكار أدوات التنمية وفوائدها لفائدة مناطق محدّدة ولأسباب لا علاقة لها بأي إستراتيجيّة تنمويّة حقيقيّة، بينما تُقصَى جهات البلاد الأخرى من خارطة التمدين والتنمية، ويُترَكُ سكّانُها فريسة للفقر والبطالة والجوع والقهر، محرومين من أبسط متطلّبات الحياة البدائيّة فضلاً عن متطلّبات الحياة الكريمة، من فرص عمل وتعلّم وتعبير وتثقيف. هذه المناطق المحرومة هي التي عانت أكثر من غيرها ويلات النظام البائد. وهي التي انتفضت أكثر من مرّة على امتداد عقود. وهي التي بادر أبناؤها وبناتها إلى التضحية بأرواحهم لإشعال شرارة الثورة. لكنّها لا تشعر حتى الآن بأنّ صوتها مسموع. ولا ترى ما يبرهن كفايةً على انتباه النخبة إلى ما يتطلّبه وضعها من حلول عاجلة. ولا تتلقّى حتى الآن الرسائل الكافية الكفيلة بطمأنتها على مستقبلها، والكفيلة بإقناعها بأنّها في المركز من المشهد السياسيّ والإعلاميّ والاقتصاديّ، ولن تظلّ مهمّشة كما كانت. تصلني أصوات هؤلاء الأحبّة فأستحضر نسوة يكدن يتمزّقن بين أعباء البيوت وأعباء الشوارع، يكاد يحني ظهورهنّ المنسج وتكاد تتلف أيديهنّ المسحاة. أستحضر رجالاً تكاد أقدامهم تذوب مشيًا على الجمر، لكنّهم يصبرون على كلّ شيء ويبذلون كلّ شيء على أمل أن يتعلّم أبناؤهم وبناتهم ويتخرّجوا ويعيشوا حياة أفضل، ثمّ إذا هم يرون أبناءهم وبناتهم يضيعون، أو يعودون بشهائدهم إلى الموارد الشحيحة والرمال المتحرّكة والبطالة المزمنة والانتظار الطويل. لقد كانت هذه الثورةُ في جانبٍ كبيرٍ منها، ثورتَهم، أي ثورة المنسيّين. وهؤلاء المنسيّون هم الذين يُطلقون «أغنيتهم» هذه الأيّام في مختلف جهات البلاد متسائلين: لماذا نشعر بأنّ صورتنا غير واضحة حتى الآن، وبأنّ صوتنا لا يصل بالشكل المطلوب، وبأنّ «المرآة» ما انفكّت تنكسر بين أيدينا دون أن تقولنا كما نريد ودون أن تحكي عنّا بما يكفي؟