1 من السلطة على الشارع إلى سلطة الشارع النزول إلى الشارع أمر ملازم لكل الثورات بهدف الاستيلاء عليه ولذلك فإن كلّ شعارات الثوار تتلخص في هذا المعنى: نحن باقون هنا، نحن مرابطون، نحن صامدون... نحن معتصمون، لن نرحل... والنزول إلى الشارع هو إيذان بميلاد الثورة كما أن السيطرة عليه هي إيذان الثورة قيامتها. ولما كان الشارع هو مهد الثورات تسعى الدولة وتحديدا الدولة الشمولية إلى بسط سلطتها عليه عبر التحكم في حركة الناس والبضائع والأفكار. وليست أبواب المدن وإشارات المرور ونقاط الاستخلاص على الطرق السيارة ومراكز الشرطة والمطارات والقمارق والثكنات والسجون والملاجئ سوى كوابح أمام تدفق الجمهور وسيلان الأفكار. إن كل هذه الحواجز ليست سوى إعادة بناء لمختلف عناصر الحصن في العصور الوسطى، ولأمر ما قيل إن الأنظمة الاستبدادية هي حصون سميكة يصعب اختراقها. التحكم في حركة المرور بمعناها الواسع هو هاجس كل الأنظمة الشمولية لأن ذلك يعني التحكم في الحركة السياسية. لنذكّر فقط ببعض الطرق التي تعمد إليها الدولة الاستبدادية للتحكم في حركة الشارع. من هذه الطرق توجيه الناس نحو الطريق (النفي أو الهجرة أو السفر أو الابعاد..) ومن مستلزمات هذه الطريقة توسيع شبكات الطرقات. والجميع يعرف أن هذه الطريقة هي احدى أهمّ انجازات دولة بن علي. ومنها تحديد سرعة الجموع المتحركة (بعض أنواع السيارات والدراجات النارية ممنوعة على العموم نظرا لسرعتها الفائقة) ومنها استغلال حركة العامة لخدمة الدولة (العمل التطوّعي مثلا). هكذا يصبح الاسفلت المجال أو الميدان السياسي أو هو المكان الذي تصنع فيه السياسة. ولا فائدة من التذكير بأسماء الزعماء الذين بدأوا حياتهم في الشارع. كون الاسفلت هو مجال الصراع بين الدولة المستبدة والثورة يعني: كل ثورة إنما تقع في المدينة. التعارض في المدينة هو بين الحركة والسكون، حركة الثورة وسكون الدولة. سلطة الدولة ليست سلطة طبقة على أخرى فذلك أمر ثانوي وإنما هي سلطة مدينة polis وسلطة شرطة police. لكل ذلك صدق جوزيف غوبلز Joseph Goebbels عندما قال: «من يسيطر على الشارع يسيطر على الدولة ففي الشارع تنغرس جذور السلطة». ومغزى القول: لقد سقط بن علي ومعه جزء كبير من نظامه عندما سيطرت جموع الثائرين على الشوارع وصمدت رغم كل العنف والإرهاب والتخويف. وللإجهاز على بقايا النظام ليس هناك سوى الشارع ففيه تصنع السياسات. 2 في كيفية إدارة الشارع الشارع هو مدار الصراع بين الدولة المستبدة والثورة. وللسيطرة عليه هناك كيفيات تسمى في أدبيات الثورة «تكتيكات». من هذه التكتيكات «الاعتصام»، وفي الاعتصام معنى العصمة أي المنع ومعنى الاستعصام أي الإباء ومعنى الملازمة (أعصم الرجل بصاحبه إذا لزمه). وفي حال الثورة التونسية كانت كيفيات السيطرة على الشارع محددة في النصر. لقد عرفت هذه الثورة ثلاث مراحل مفصلية: إحراق المرحوم البوعزيزي لنفسه وما تلاه من ردود فعل في سيدي بوزيد وما جاورها. انتفاضة تالة والقصرين وقد عرفت هذه الانتفاضة «تكتيكات» جديدة في التعامل مع الشارع حيث عمد الشباب الثائر في مدينة تالة إلى التظاهر ليلا مستغلين تضاريس المدينة وبنيتها العمرانية المتميزة خصوصا في منطقة «النجارية». لقد كانت هذه المرحلة محددة إلى حدّ كبير في إعطاء زخم كبير للثورة ليس فقط بتكتيكاتها وإنما كذلك بحجم التضحيات التي قدمها الأهالي. وصول المظاهرات إلى العاصمة وتركزها في شارع بورقيبة وأمام وزارة الداخلية معقل النظام الحصين والشرطي المتحكم في حركة المواصلات. إن الشعارات التي رفعت أمام مبنى الوزارة كانت تتويجا لحركة الثورة وذلك بتوجيه رأس النظام نحو الطريق، فعبارة Dégage التي كان يرددها المتظاهرون تعني أنه على النظام أن يتجرع من نفس الكأس التي تجرعها معارضوه أي التحكم في حركته وتقييدها. 3 أولاد الشوارع يقال إنه في كل ثورة هناك رابحون وهناك خاسرون وهناك انتهازيون. الرابحون هم الثوار والشعب العظيم والخاسرون هم النظام وأبناؤه. أما الانتهازيون فهم الذين يركبون قطار الثورة في منتصف الطريق. ولكن هناك صنف آخر أسمّيهم «أولاد الشوارع» أو «كلاب السوق» أي أولئك الذين لا «أصل» لهم أي لقطاء بالمعنى البيولوجي. لم يكونوا أولاد النظام «الشرعيين» بل أولاد «شحيبر». كانوا لا يتورعون عن إعادة انتاج ممارسات النظام مستفيدين من غياب القانون ودولة المؤسسات. هؤلاء كانوا في أغلبهم من النخبة المثقفة ومن الجامعيين استفادوا حتى النخاع من الأمر الواقع الذي فرضه بن علي على المجتمع، وعلى المؤسسات الثقافية والجامعية. ولم يتركوا الفرصة تمر دون تحقيق أقصى قدر من المكاسب: سفرات وملتقيات وندوات و«ساعات إضافية» واستشارات مدفوعة الأجر ومهمات يكلفون بها وإطلالات في وسائل الإعلام وما يتبعها من تقوية الرصيد المعنوي إلى ما هنالك من «مغانم» سوّلت لهم أو لبعضهم وخصوصا من الجامعيين الدوس على زملائهم بلا رحمة ولا شفقة. لقد كان منظرهم مقززا جدا وهم يتصدرون وسائل الإعلام يتحدثون عن العدل والكرامة والحرية وانصاف المظلومين. تبّا لهم لقد أهانوا الثورة والثوّار. هؤلاء حقّ لنا الآن أن نقول لهم بصوت واحد: الصبر للّه والرجوع لربي..