الأستاذ الحبيب خضر - محام وجامعي من الثابت أن الحكومة القائمة حكومة مؤقتة انتقالية كما تصف نفسها، وصفتا الانتقالية والتوقيت لا تتناسبان مبدئيا مع التصدي الى مسائل لا تتسم بالاستعجال بل تكون على العكس من ذلك جوهرية وجدلية تثير من الخلاف أكثر مما تثير من الاتفاق. تندرج في هذا السياق مسألة محاولة الوصول «خلسة» الى إلغاء عقوبة الإعدام. وتتجلى صبغة محاولة التستر على هذا المقصد من خلال ما لجأت إليه الحكومة المؤقتة من استغناء عن تدخل السلطة التشريعية بمجلسيها، على ما لنا من ملاحظات عديدة عن عملهما، وذلك تبعا لتفويض صلاحية التشريع لرئيس الجمهورية عبر المراسيم ثم خاصة من خلال استعمال عبارات تقنية لا يكاد يفهمها جل المواطنين وذلك بالحديث مثلا عن تبني الحكومة المؤقتة مشروع قانون يقضي بالمصادقة على «الملحقيْن الاختياريين للميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية» دون مزيد التفصيل. إن غالبية المواطنين لا يدركون مضامين هذين الملحقين وخاصة الثاني منهما الصادر سنة 1989. إن هذا الملحق الاختياري الثاني للميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية يتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام. وحتى تتبين خطورة ما تحاول الحكومة المؤقتة تمريره في غفلة من الناس يمكن الوقوف ابتداء عند معطيات تقدم الميثاق وملحقه الاختياري ثم معطيات تخص البلاد والحالة القائمة فيها انتهاء بالبحث في المستفيد من هذا التمشي الحكومي. 1/ معطيات توضيحية بخصوص الميثاق وملحقه الاختياري: • تم اعتماد الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية وعُرض للتوقيع والتصديق والانضمام بقرار الجمعية العامة عدد 2200 (أ) المؤرخ في 16/12/1966 ودخل حيز النفاذ في 23/03/1976. • انخرطت تونس في الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية بموجب القانون عدد 30 لسنة 1968 المؤرخ في 29 نوفمبر 1968 المنشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 51 المؤرخ في 29 نوفمبر3 ديسمبر 1968، أي أن الانخراط تم بعد سنتين فقط من صدور الميثاق. • اعتُمد الملحق الاختياري الثاني الهادف للعمل على إلغاء عقوبة الإعدام وعُرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد 44/128 المؤرخ في 15 ديسمبر 1989 ودخل حيز النفاذ في 11 جوان 1991، أي أنه قد مضى الآن على صدوره أكثر من عشرين سنة. •تبعا لما جاء بالفقرة الأولى من المادة الثانية من الملحق الاختياري المتعلق بالعمل على إلغاء عقوبة الإعدام فإن إمكانية التحفظ على الملحق الاختياري نفسه لا يُسمح بها إلا بالنسبة لتحفظ يكون قد أعلن عنه عند التصديق عليه، أي أنه لا مجال طبعا الى التحفظ اللاحق. ولا يمكن أن يشمل التحفظ إلا عقوبة الإعدام في وقت الحرب طبقا لإدانة في جريمة بالغة الخطورة تكون ذات طبيعة عسكرية وترتكب في وقت الحرب. • التصديق على المحلق الاختياري أمر اختياري كما تؤكده تسميته بمعنى أنه من الممكن لكل دولة من الدول أن تكتفي بالانخراط في الميثاق الدولي دونا عن ملحقيْه أو أحدهما. • إمكانية التصديق على الملحق الاختياري تظل مفتوحة لكل دولة انخرطت في الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية ولا يوجد سقف زمني لذلك. 2/ معطيات تخص البلاد والحالة القائمة فيها: يمكن الاكتفاء بالعناصر الثلاثة التالية: • إن الدولة التونسية ليست في عجلة من أمرها من أجل المصادقة على الملحق الاختياري المذكور ويمكن أن يتم ذلك لاحقا في ظل حكومة عادية إن حصل توافق على مثل تلك الخطوة الخطيرة. • مسألة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام كانت محل نقاشات كثيرة في المنظمات الحقوقية والمنتديات الفكرية وحتى في رحاب مجلس النواب، ويعلم كل من شارك في تلك النقاشات أن الإجماع على إلغاء عقوبة الإعدام لم يتحقق أبدا وأن المسألة ما تزال بحاجة لمزيد من النقاش الرصين الذي يأخذ بعين الاعتبار مختلف وجهات النظر. • الحالة التي عاشتها البلاد يمكن أن توصف بأنها حالة قمع امتدت لسنين طويلة تخللتها انتفاضات فثورة، أي أنها ليست حالة حرب على معنى الفقرة الأولى من المادة الثانية من الملحق الاختياري للميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وهذا يعني أنه حتى لو ارتأت الحكومة المؤقتة في مشروعها المتكتم على تفاصيله أن تتحفظ عند التصديق على الملحق فإن التحفظ لن يكون منطبقا على الجرائم التي عاشتها البلاد طيلة سنوات القمع وهو ما يعني أنه لن يكون من الممكن تنفيذ أو إصدار أي حكم بالإعدام مهما كانت فداحة الجريمة المرتكبة. 3/ لمصلحة من تحاول الحكومة تمرير إلغاء عقوبة الإعدام: لا ريب بأن الحكومة المؤقتة يجب أن تنكب وتنشغل باستعادة الأمن بالبلاد وبتلبية الاستحقاقات المطلبية الحيوية التي طمست طيلة سنين طويلة أكثر من انشغالها بعقوبة الإعدام التي يمكن أن يُدار بشأنها نقاش وطني رصين في غير هذا الوقت وبغير هذه الظروف، خاصة وقد فضلت الدولة التونسية عدم التصديق على الملحق الاختياري على الرغم من مضي أكثر من عشرين سنة عن صدوره اختيارا وليس جهلا بوجوده. فالحكومة المؤقتة ليست بصدد التفطن لاكتشاف غفل عنه الجميع طيلة سنين بل هي بصدد محاولة استغلال انشغال المواطنين بقضايا كبرى تخص الحرية والكرامة لتمرير مشروعها المريب وهو ما يطرح الاستفهام بخصوص المستفيد من تمرير هذا النص. لا شك بأن البلاد اليوم بفضل الثورة والسعي المتواصل الى القطع مع منظومة الفساد والإجرام المهيكل مقبلة على فتح ملفات خطيرة طالما أغلقت بقوة القمع، ومن المهم أن تفتح تلك الملفات بين يدي قضاء مستقل يوفر ضمانات المحاكمة العادلة، ولا شك أيضا بأن فتح الملفات القديمة والجديدة سيكون ثمنه رقاب بعض من استمرؤوا القتل. أوليس من أقدم عامدا على قنص المواطنين وتقتيلهم ممن يجدر إعدامه؟ أوليس من أشرف على تعذيب المناضلين من خيرة أبناء هذه البلاد حتى الموت ممن يجدر إعدامه؟ أوليس من قتّل الطلبة العزل في رحاب الجامعة التونسية مطلع التسعينات من القرن الماضي ممن يجدر إعدامه؟ هل توهم الحكومة المؤقتة نفسها أن الثكالى من الأمهات والزوجات ومن تيتم من الأبناء سيقدر عاليا مبادرتها لمحاولة إلغاء عقوبة الإعدام في هذا الوقت بالذات؟ أم تراها قد استثقلت الرؤوس التي أينعت وحان قطافها؟