لأننا من أبناء الحوض المنجمي الذي ولدنا فيه ونشأنا وتكحّلت عينانا بفسفاطه فإننا ندرك جزئياته وظروفه وأوضاعه ونعرف أننا ملتصقون به الى حدّ النخاع وبكل افتخار لذلك ظللنا في اتصال مستمر بأبنائه سواء بصفة مباشرة أو عبر الهاتف أو في انتظار الوافدين على العاصمة خاصة أن التقاليد المنجمية العريقة تفرض علينا ذلك وتؤسّس وعلى مرّ السنين لمزيد ترسيخ هذا الافتخار بالانتماء للحوض المنجمي الذي تناسوه وتجاهلوه ودمّروه بشكل كبير حتى أصبح بمثابة القبور المهجورة التي يتنفس فيها المناضلون ويدافعون عن حقوقهم المشروعة بشتى أنواع وأشكال الدفاع دون خوف ولا تردد حتى وإن تضاعف الاستبداد والاضطهاد والقمع والتشريد والحرمان والاتهام بالتمرد والعصيان والزجّ بالمناضلين في السجون والمنافي. وإذا أشرنا الى بعض الشذرات فقط التي لا تمثل الا قطرة من بحر من مشاكل وأزمات المنجميين دون أن نكون أوصياء ودون جهويات ولا نزعات ضيقة فإننا ندرك أن الحوض المنجمي كان بمثابة المدن المتطورة على مختلف الواجهات التنموية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والشبابية والرياضية وحتى السياسية دون التحدث عن النقابات التي تتجلى حقائقها منذ أول القرن الماضي حين كانت الكنفيدرالية العامة للعمال (C.G.T) والكنفيدرالية العامة للعمال التونسيين (C.G.T.T) وصولا الى 20 جانفي 1946 حين أسس الزعيم فرحات حشاد الاتحاد العام التونسي للشغل وكان لعمال المناجم دورهم الفاعل في ذلك. هذا الحوض المنجمي عرف أيام الاستعمار الفرنسي الغاشم والذي لا نجمّله أبدا الانفراجات والتنمية حيث بقدر ما كان «يسرق» الثروات كان يوظف بعض النسب لخدمة المنجميين حيث المقتصديات (Les économats) وهي فضاءات تجارية تتوفر فيها كل ما يطلبه مواطنو المناجم كما كانت الحدائق العمومية التي أصبحت نواد لإطارات الشركة وكانت المتاحف التي نهبوا ما في داخلها لتزويق منازلهم وأروقتها فضلا عن الاهتمام الكبير بالجوانب الاجتماعية بمختلف أوضاعها وتوفير مجانية الكهرباء والماء والصحة والتعليم وتوفير المنح والرحلات خارج البلاد للتلاميذ النجباء والمنح للجمعيات والمنظمات وغيرها كما أن الطرقات كانت ممتدة والتنوير وحرمة المساجد والحمامات العمومية والمهرحانات وكل شيء كان موجودا في المناجم قبل 1956 حسب ما يؤكده الشيوخ الذين تؤكد الأرقام والاحصائيات أنهم كانوا سبّاقين للجهاد في الحركة الوطنية والحركة النقابية كما أن عدد الشهداء كان كبيرا جدا ولكن دون مبالاة لأرواحهم الزكية ولا للماضي ولا للنضالات التي تدعمت وتضاعفت أكثر بعد (1956) في دواميس الفسفاط التي ذهبت ضحاياها الكثيرة من أجل إخراج الذهب الأسود لبناء تونس الحديثة في العهد البورقيبي الذي كان أنانيا وقام بتصفية حساباته مع الحوض المنجمي بسبب اتهام أبنائه باليوسفية ثم بالانصهار في محاولة عملية انقلاب 19 ديسمبر 1962 التي قادها الأزهر الشرايطي المجاهد والمناضل الكبير وبسبب التحرّكات النقابية على مرّ السنين..مما جعلهم (أي بورقيبة) وزبانيته يمتصون دماء المنجميين وعرقهم ويحرمونهم من أبسط ما كانوا يتمتعون به في عهد الاستعمار المقيت قبل مجيء الرئيس المخلوع والجبان والهارب الدكتاتور بن علي الذي ضاعف في قمع الحوض المنجمي وحرمانه واضطهاده حتى أصبح هذا الفضاء المثمر والثري بخيراته بمثابة المنطقة الصناعية الملوثة في ظل نهبه للأموال الطائلة وتفويض شركة الفسفاط لذرّ الرماد على العيون من حين الى آخر ومزيد قمع «المحرومين» من المعطلين عن العمل وغيرهم ليتقلّص عدد العاملين من (14) ألفا الى (5800) أو (6) آلاف فقط بما في ذلك الذين لا تربطهم أي صلة بالشركة مثل بعض العاملين أو الملحقين في التجمع الدستوري الديمقراطي وغيرهم مقابل التجاهل الكلي للمعطلين الذين ارتفع عددهم بشكل كبير جدا. أين معمل الإسمنت ؟ ومن بين الأكاذيب التي كان يروجها الرئيس الهارب وزبانيته بعث المشاريع في الحوض المنجمي وخاصة بعد ثورة 2008 حيث تمّ الاعلان عن معمل للاسمنت ب«كاف الدور» أو بالمفترق الذي يجمع المتلوي والرديف وأم العرائس.. ولكن دون جدوى ولا متابعة ولا حتى اشارة الى الأسباب التي دفعت السلطة للتراجع فضلا عن عديد المشاريع الأخرى التي روجوا لبعثها دون أن ترى النور ليبقى التعلق بالشركة الوحيدة والعملاقة التي تمّ تأسيسها منذ (1897) وهي شركة الفسفاط التي أفرغوها من محتوياتها ومكاسبها مثل السكك الحديدية والقاطرات ولمحطات و«هناشر» الشعال ونعسان وغيرها كما أفرغوها من مساهماتها في أسهم تأسيس عديد الشركات الأخرى الكيمياوية والتي لها التصاق مباشر بها قبل ضم المجمع الكيمياوي إليها بعد أن عرف الافلاس نتيجة للصفقات المشبوهة التي جعلت بعض مديريه من أثرياء البلاد والذين منهم من مازال له نفوذه (سنعود الى هذا الملف الذي في حوزتنا عديد الوثائق والبراهين التي تدين أغلب مسؤولي هذا المجمع الكيمياوي). خليج تونس... ولكن؟ بعضهم وحتى من المهندسين والعاملين وحتى المدربين الذين يشرفون على حظوظ أندية المناجم كانوا يعتبرون أنفسهم يعملون في «الخليج» وذلك لما يحرزون عليه من جرايات مرتفعة لا يجدونها حتى في أكبر الأندية لتتغير المعطيات وتصبح جهة المناجم مناطق البؤس والفقر والبطالة والحرمان بعدما كانت «خليج تونس» الذي يدرّ على الوطن ككل بالخيرات على مختلفها خاصة أن عمال المناجم هم وكما أشرنا سابقا من كل أنحاء البلاد بشمالها وجنوبها وساحلها وبصفاقس والقيروان ووسطها وغربها وشرقها وحتى من الدول المغاربية (ليبيا والجزائر والمغرب). التشغيل ثم التشغيل.. خط أحمر لا تراجع فيه الإعتصامات التي برزت خلال الفترة الأخيرة في مختلف مدن الحوض المنجمي والتي لا تترجم إلى حقيقة احتجاجات المعطلين عن العمل على البطالة والوضع المتردي الذي يعيشونه وذلك على المستويات مازالت متواصلة ومستمرة ومتلاحمة الصفوف بين عناصر مئات الخيام المنتصبة وذلك إلى حد توفير الشغل لهم وذلك ولو بنسبة فرد واحد من كل عائلة لتتجلى حقيقة اعتدال المعتصمين الذين يحرص بعضهم على تهميشهم وعلى غرار ما حدث في الليلة الفاصلة بين الجمعة والسبت 11 و12 فيفري الجاري، حين حاول بعضهم وهم من المحرضين من قوى الردة والجذب إلى الوراء حرق مناطق الانتاج بما في ذلك المغاسل الفسفاطية وإدارة الشركة «البرج» في مدينة المتلوي غير أن المعتصمين الواعين بحقيقة مطلبهم الذي يضعون خطا أحمر لا تراجع فيه وهو التشغيل ثم التشغيل حيث دافعوا عن حقوقهم وقاموا بحماية هذه المواقع إلى جانب عدد كبير من القوى الحية العاملة وغيرها حتى لا يقع الحرق ولا النهب ولا أي شيء لا يتماشى وتطلعاتهم ومطالبهم المشروعة وليؤكدوا أيضا أنهم غير مستعدين لتهميشهم وتوجيه حقيقة مشاغلهم إلى أشياء أخرى يأبونها ويرفضونها وهو موقف إيجابي جدا سيعزز بالتهدئة في صورة إيجاد حلول واقعية تتماشى والثورة المجيدة الخالدة التي حرص أبناء المناجم على حمايتها من كل تلطيخ وتهميش. وعي عميق.. ولا دمغجة في الحقوق هذا الوعي العميق والكبير لأبناء المناجم أكد العراقة والتقاليد المتميزين بها على مرّ السنين ومن المفروض الاستماع إلى مشاغلهم دون دمغجة ولا ديماغوجيا ولا هروب من المسؤولية التي بقدر ما تتحملها شركة الفسفاط فإن للسلطة العليا دورها في تعميق الجرح وتعفنه خاصة أن المنجميين العاملين كثيرا ما يبذلون جهودهم دون أن ينالوا غير البؤس والحرمان والبطالة لأبنائهم ولأشقائهم من أصحاب الشهائد العليا وغيرهم وبالتالي فإنه وفي صورة توفيرالحلول العقلانية والعلمانية التي تتماشى وتطلعاتهم لا شك أن الجهد سيتضاعف أكثر خاصة أنهم يؤمنون بأن العمل مقدّس ولا كرامة دون عمل ولا اعتصام ولا احتجاج إلا من أجل الدفاع عن حقوقهم المقدسة وكرامتهم. جمعية للتنمية في كل مدينة منجمية ومما لا شكّ فيه أن الثورة المجيدة ستفرز أيضا بعث جمعية للتنمية في كل مدينة منجمية خاصة أن الكفاءات كثيرة والطاقات أكثر من القوى الحية يكون لها دور في إبراز عنصر التنمية الذي ظلت مناطق الحوض المنجمي محرومة منه طيلة (55) سنة كاملة وخاصة إذا استجابت السلطة إلى مطلب ملح يتمثل في احداث ولاية منجمية تهتم بالدراسات والبرامج والمقترحات لتأسيس مرحلة ما بعد الثورة حتى لا يبقى معطل واحد عن العمل في الحوض المنجمي ويتم ردّ الاعتبار لهذه الجهة التي بقدر ما يرفض أبناؤها كل أشكال النزعات الضيقة والجهويات المقيتة فإنهم يدركون أن الخصوصية في المناجم منفردة ولا يمكن أن يفهمها إلا المنجمي الذي «عفس على الجمر» واكتوى بنيرانه طيلة فترات القمع والانتهاكات والفساد والاستبداد كما أنه وعلى السلط العليا أن تدرك أن دورها كبير لمنح هذه الجهة المنجمية المحرومة ميزانيات تتماشى والثورة وشرعيتها من جهة وخصوصيات الجهة وحرمانها من جهة أخرى فضلا عن تدخل المؤسسات الوطنية الأخرى وخاصة التي لها ارتباط وثيق بشركة الفسفاط وغيرها للتدخل في المساهمة في تشغيل أبناء المناجم بما في ذلك الوزارات وذلك كل حسب اختصاصه حتى يمكن للحوض المنجمي أن يحتفل بالثورة التي كان قد زرع بذورها وأشعل نيران فتيلها منذ 2008 بصفة جلية وكان قد ساهم في اندلاعها على مرّ السنين التي قادتها عصابات الفساد والاستبداد التي مازال منها من يتدثر ويغطي نفسه بمحاولة «الانصهار» في منظومتها عساه يحمي نفسه من المحاسبة خاصة أن التورط واضح ولجنة تقصي الحقائق ستكتشف ذلك ولا شك.. كما أن جيل الثورة سيطرح السؤال الملح وهو من أين لك هذا مهما أعدموا أو حاولوا ذلك لعديد الوثائق والحجج؟؟