الفساد غول أتى على الأخضر واليابس، فنهب الثروات الاقتصادية، وعطّل الانتاج، وراكم البطالة وبرّر الرشوة، واستغلال النفوذ، والمحسوبية. والفساد ليس صناعة خاصة بأصهار وأقارب الرئيس السابق، بل هو ممتدّ الجذور، ضارب في عدّة مستويات، مستشر في أكثر من مكان، لذلك فإن التركيز على طرف دون آخر في هذه المسألة الشائكة، هو أشبه بمن يداوي ورم سرطان بحبّات أسبرين. ولو توفرت الفرصة أمام الفاسدين لكي ينجو بأنفسهم، فإنهم سوف يعيدون انتاج نفس النظام الاقتصادي الفاسد الذي أعاق تونس من النمو الحقيقي ومن التنمية التي لا تخلّف بعدها. وسوف يعيدون بالنتيجة انتاج كل مظاهر الفساد الأخرى الاجتماعية والثقافية والأخلاقية التي عانتها تونس خلال العقدين الاخيرين، وبلغت فيها من الانحلال والميوعة ما لم يكن يُتصوّر. إن الفساد ملفّ شائك وخطير، وهو يتطلب معالجة شاملة، تذهب حتى الى التفاصيل، وتجتاح أدقّ الجزئيات. والا فإن كل هذه التضحيات سوف تذهب هباء وكل هذا التحوّل التاريخي العميق سيكون بلا نتيجة. ذلك أن نهاية النظام السابق كانت بسبب الفساد ونهب الاقتصاد واحتكار كل القطاعات المنتجة. وبمثل هذا السلوك تعطّلت التنمية في تونس، وعوض أن تتقدّم البلاد أماما تأخرت وراء، وتراجعت القهقرى، ولم تتمكّن من الصمود أمام تقلّبات الأوضاع الوطنية والعالمية. وإذا ما بقي الفاسدون بلا محاسبة، فإن الأوضاع لن تكون أحسن، وإذا ما أفلتوا من القانون فإن السوء كلّه سينتظر تونس عند أوّل منعرج. والقضاء على الفساد ليس عملية سهلة ولكنها ليست مستحيلة أيضا، فلا بد من العمل بهدوء، وتؤدة، ولابد من التمحيص في الملفات، ومن مختصين في المجال ومن وثائق لا يرقى إليها الشك. ولابد حتى في باب النوايا، أن لا يكون القصد هو التشفي، أو تصفية الحسابات، أو الانتقام، فإن هذا كلّه لن ينفع أحد بشيء، بل المطلوب من خلال عملية تصفية الفساد هو خلق نمط اقتصادي منتج وسليم.