لئن قام بعض الباحثين بدراسة الدين والدولة في عهد بورقيبة وألفوا في ذلك كتبا، فإن موضوع الدين والدولة في عهد بن علي لما يدرس بعد ولذلك سنحاول التذكير بالوضع الديني في عهد بورقيبة من جهة، ومحاولة إبراز الخطوط الرئيسية للمسألة الدينية في عهد بن علي من جهة أخرى محاولين التزام الموضوعية والنزاهة بأقصى حد ممكن. موقف بورقيبة من الدين لم يكن الاسلام في تونس منذ الفتح الاسلامي الى استقلال البلاد التونسية مثار جدل أو اختلاف سواء بين النخب السياسية أو بين المصلحين والمثقفين، بل كان الإسلام هو السد المنيع من الغزاة كالوندال والصليبيين والاسبان وبصفة خاصة الاستعمار الفرنسي الذي كان يحمل في طياته ليس أهدافا إمبريالية فقط وإنما كان يهدف الى تمسيح الشعب التونسي ومحو مقوماته الثقافية والحضارية باعتبار أن ذلك داخل في عملية الاسترداد التي قادتها اسبانيا في الأندلس وتولتها فرنسا من بعدها وهي عودة الشمال الافريقي الذي كان خاضعا للإمبراطورية الرومانية الى الغرب المسيحي، ولذلك شجع رجال الدين في فرنسا وعلى رأسهم الكاردينال Lavigerie السلطة الفرنسية على احتلال تونس. وما إن احتلت البلاد حتى أقامت سلطة الحماية تمثالا له في قلب المدينة بين قوس باب البحر ومدخل نهج جامع الزيتونة الذي كان يسمى نهج الكنسية، وكان هذا التمثال يحمل بيده اليمنى صليبا وباليسرى إنجيلا كما فتح الباب على مصراعيه للمبشرين المسيحيين من كاثوليك وبروتستانت، وانتشروا في كامل القطر التونسي ولاسيما في المناطق الفقيرة كعين دراهم وتيبار وغيرها، وأسسوا المدارس ومراكز التكوين المهني ، فضلا عن تأسيسهم للكنائس ليس في المدن فقط، وإنما في القرى والأرياف كالمرناقية وبرج العامري. ولكن الشعب التونسي على الرغم مما كان يعانيه من فقر وأمية ومرض وظلم في الجباية فقد تصدى لهذا المشروع الاستعماري المدمر وتمسك بالإسلام عقيدة وثقافة وحضارة، وكان يدعمه في ذلك ويشد أزره جامع الزيتونة المؤسسة العلمية العتيدة التي كانت في نظر التونسيين جميعا رمزا للهوية العربية الاسلامية. وقد شعر المستعمر بخطر هذه المؤسسة وربيبتها الجمعية الخلدونية فأخذ يتآمر عليهما ويسعى الى إطفاء نورهما من ذلك مشروع (ماشوال ) مدير التعليم القاضي بتوحيد التعليم بتونس وكان ذلك سنة 1905 ولكن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل، واستمر الصراع محتدما الى أن تحصلت البلاد على استقلالها، وبعد الاستقلال مباشرة تكون المجلس التأسيسي لإعداد دستور البلاد، وطرحت قضية علاقة الدين بالدولة حيث طالب بعض الأعضاء بأن تكون الدولة علمانية إلا أن الأغلبية المطلقة طالبت بأن يكون الاسلام هو الدين الرسمي للدولة، وعندئذ تدخل بورقيبة بأسلوبه المعروف وهو مجاراة التيار وصاغ العبارة التالية التي وردت في الفصل الأول من الدستور(...الإسلام دينها والعربية لغتها)... ولكن الممارسة الحقيقية للنظام البورقيبي كانت ممارسة علمانية لاغبار عليها فقد ألغى المحاكم الشرعية وألغى الأحباس وألغى مؤسسة التعليم الزيتوني التي كانت تضم سنة 1950 ما يقارب 16 ألف طالب معظمهم من الطبقة الشعبية فضلا عن تخريجها لكثير من الزعامات السياسية والشخصيات الدينية والفكرية وأيضا مساهمتها الفعالة في الحركة الوطنية ومقاومتها للإستعمار. كما دعا بورقيبة الى الإفطار في رمضان لأن الصوم في نظره يضر بالاقتصاد وبالتنمية، وفوق هذا وذاك فقد كان يسخر ويتهكم على المقدسات الإسلامية كالجنة وشخصية الرسول محمد عليه السلام، ففي خطابه المشهور بالبالماريوم قال بالعبارة الدارجة:« سواقي سمن وعسل ودفاتر أنا نضمن لكم الجنة» وكان يقصد بذلك ماورد في قوله تعالى (وأنهار من عسل مصفى) وقوله:« وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين»كما كان في الكثير من المناسبات يشيد بكمال أتاتورك ويعتبره قدوة يجب الاقتداء به وقد كان لهذه السياسة المعادية للدين تداعيات خطيرة أبرزها: 1 ) مشاركة بعض الزيتونيين في المؤامرة التي اكتشفت في جانفي 1963 والتي كانت تهدف الى الإطاحة بنظام بورقيبة وقد نفذ حكم الإعدام في عشرة من العسكريين والمدنيين من بينهم أستاذان من الزيتونة وهما أحمد الرحموني وعبد العزيز العكرمي. 2 ) ظهور حركة الاتجاه الاسلامي في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات التي أعلنت معارضتها الصريحة لمظاهر العلمنة والتغريب، فبدأت تدعو الى الاعتماد على رؤية الهلال في رمضان بدل الحساب وتدعو الى إلغاء المنشور الذي يعتبر الحجاب لباسا طائفيا وغيرها من الدعوات. ولكن بورقيبة كعادته لا يقيل أن يعارضه أحد فاتجه الى الحل الأمني واستخدام سيوفه المعروفة سبق البوليس وسبق القضاء وسيف المليشيات الحزبية وعلى الرغم من ذلك لم يستطع أن يقضي على هذه الحركة نظرا لانتشارها في كامل الجمهورية وتجذرها في مختلف الطبقات. وقد أدى هذا الصراع بين السلطة والإسلاميين الى جانب شيخوخة بورقيبة والتجاذب بين أجنحة الحكم وتردي الأوضاع الاقتصادية الى الإرتباك في عمل الحكومة، فاستغل بن علي هذا الوضع واستولى على الحكم. ومن خلال ما تقدم نستنتج: 1 )أن محاولات بورقيبة لإزالة الصبغة الدينية للشعب التونسي وفرض علمانية فوقية قد باءت بالفشل لأن اجتثات العقائد الدينية مهما كان نوعها مستحيل عقلا وواقعا كما قرر علماء تاريخ الأديان. 2)أن هذه السياسة المعادية للدين قد أوجدت رد فعل غاضب هو ظهور حزب سياسي له مرجعية دينية دخل في صراع مع السلطة فأنهكته وأنهكها. موقف بن علي من الدين ما أن اعتلى بن علي سدة الحكم حتى أصدر بيانا ضمنه عدة مطالب كانت المعارضة والقوى الوطنية تطالب بها من ذلك أن تونس للتونسيين جميعا، ولا رئاسة مدى الحياة، واستبشر الشعب بهذا التحول وبدأت وسائل الإعلام تصف بن علي بأنه منقذ البلاد ولولاه لصارت تونس مثل الجزائر بن علي سرعان ما تنكر لبيانه وبدأ شيئا فشيئا يخطط للبقاء في الحكم بل وتوريثه لمن يثق فيه، ولذلك انتهج سياسة بوليسية قمعية لا رحمة فيها ولا شفقة ، وتحول نظامه الى نظام دكتاتوري من أفظع الدكتاتوريات في العالم، ولكن الذي سنقف عنده هو سياسته الدينية، إن هذه السياسة يمكن حصرها في عنصرين أساسيين هما. الاسلام السياسي الإسلام الرسمي . يتبع بقلم : د سليمان الشواشي (أستاذ جامعي)