مات الملك، عاش الملك. اللّه يُنصُرْ منْ صْبَحْ. هذه العبارات كانت تردد بأعلى صوت عند التأكد من موت الملك المنتصب على العرش وانتقال الحكم الى خلَفه. ويسري الخبر سريعا حتى يبلغ أقاصي البلاد معلنا نهاية عهد قديم وبداية آخر جديد، واللّه خير الوارثين. وكانت عادة الملك الجديد عندنا أن يبدأ عهده بحلاقة شعر رأسه ولحيته قبل أن يعتلي الكرسي إيذانا بحلاقة رؤوس المقرّبين من السّلف المتوفى وكأنه يقول: أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، فهل من مفرّ؟ يحدث هذا في كل أصقاع الدنيا حتى في أعرق المجتمعات، مُلكية كانت أو جمهورية. يذهب ديمقراطي ويأتي جمهوري، ينزل يساري ويصعد يميني، يأتي دكتاتور ويخرج ليبرالي وتتغير ملامح الدولة داخلا وخارجا، ويحلّ الواحد بدل الآخر ولكل دولة رجال إلا كلاب العسّة فتربض متلهّفة الى سيّدها المقبل كي تشبعه لحسا وتقبيلا وتُهديه نبحا جزيلا وهي تلهث: رحم اللّه الماضي بعضّاته ولا العضّة الأخيرة أفضل من الأولى. فالذي تورّك بالأمس يُريد أن يتربّع اليوم، لأن تبديل السروج فيه راحة والذي تدنّس آنفا يتوظأ سريعا ثم ينزع ثيابه وذنوبه ويتركها في الحمّام، ويُصلّي ركعتين، فلا جرم عليه و«يشد في الشباك» ثم يعاود من جديد. ويقول: لقد غلّطوني وكنت غشيما لا أعرف، كلنا أخطأنا وعفا اللّه عمّا سلف. المهم أن نطوي الصفحة ونبدأ من جديد، وكل ليلة عيد.. ونحن جنودك يا وطن. هذا ما يقوله مثقفون لم يجف بعد حبر كتاباتهم التمجيدية ومغنّون لا زالت أصواتهم ترنّ تملّقا سواء في الحملة الانتخابية الأخيرة أو في «طهور سيدي محمد» ومسؤولون زرعوا في دواليب التعليم العالي وفي الادارة الثقافية بفعل الانتماء الى الجهة المكرّمة وبفضل دمغجتهم العنيدة المتعالية بجهلهم. فبعدما كتب أحدهم وهو العالم ذو الشهادات الثلاث أن المستحيل ليس «بنعليّا» وأن «تونس تتشبث برئيسها لمواصلة بناء المستقبل» تنكّر لسيّده بعد أقل ن شهرين وصار يتحدث عن «قبيلة رئاسية ذات سلطة أخطبوطية» وقد نسي أنه كان أحد أصابعها، ثم يقول بكل بساطة «كنت أظنّ أن» وقد ظنّ أنه بإعادة طبخ خطاب سيّده سيشتري تاريخا جديدا ويُنسي المتضرّرين ما ألحقه بهم. إذا تملّص هؤلاء من أخطائهم سرّا وانقلبوا على من كانوا يمجّدونه جهرا مقالات وأغان فلماذا لا نقبل توبة سجناء الحقّ العام المجرمين والمزطولين وقد أقرّوا بذنوبهم وطلبوا المغفرة؟ أليس الأوائل أحقر من الأخيرين؟ على الأقل فإن جرم المجرمين محدود أما شرفاء اليوم فجرمهم أشمل لأنهم ساهموا البارحة في غشّ الجماهير وقلب الحقائق ونشر الشعارات الجوفاء.. و«معا من أجل تونس». حين نقرأ افتتاحيات الأمس القريب وما تحمله من رياء ثم نرى رعونة كاتبيها وهم «يتمجلغون» في التلفزيون نتمنى أن يراهم بن علي فيقطع اليد التي علّقت الأوسمة القصديرية على صدورهم المنتفخة ونسلّم لا محالة بأن أجهزة الاعلام المرئية تستلزم تحرّكا مخصوصا واقتلاعا سريعا لعاداتها المزرية. فهي لم تستح بعد ولا تزال تواصل تبليد الذهن الشعبي والاستخفاف بمشاعره بلغة خشبية ركيكة وكأن العاملين فيها أذكى من الجميع ولهم قدرة التأقلم السريع مع كل الأوضاع. صحيح أن محاسبة المنتمين الى العهد السابق في أي نظام شمولي تستغرق وقتا طويلا ولكنها يجب أن تبدأ فور قيام الثورة دون تلكّؤ وإلا تسرّب إليها الصدأ وضاعت القرائن وأفلت الكثيرون من العقاب و«الصيف ضيّعت اللبن»، ورأينا أن تشمل المحاسبة مستويات ثلاثة: 1 الطبقة الحاكمة وأطرافها من الدرجة الأولى. 2 المسؤولين السياسيين والإداريين الفاعلين من الدرجة الثانية. 3 المفسدين والمنتفعين من الفساد، وهي الطبقة الأكثر انتشارا بين مختلف شرائح المجتمع. وإن استطاعت الثورة إجبار الدكتاتور على الهروب فإنها ستظلّ تجاهد لاقتلاع بقاياه وهو أمر يستلزم كثيرا من الصبر واليقظة. بقلم الموسيقار: د. محمد القرفي