د. فتحي الجراي (أستاذ العلوم الاجتماعية بالمعهد الوطني للشغل والدراسات الاجتماعية) ما من شك في أن ما يحدث هذه الايام من «حراك معكوس» ومن محاولات يائسة للجذب الى الوراء ومن مطلبية عارمة يحاول صوتها المبحوح عبثا ان يعلو فوق أصوات الشرفاء الذين فجّروا الثورة التونسية المجيدة وما يزالون مصرّين على حمايتها من كل انحراف عن مسارها الصحيح، ومن كل ركوب من قبل قوى الانتهازية على ما حققته من انجاز تاريخي غير مسبوق، وكذلك من كل محاولات الالتفاف والمناورة التي تمارسها كل أطياف الحرس القديم. لقد كانت الثورة التونسية المباركة منذ انطلاق شرارتها الاولى ثورة حرية وكرامة بامتياز، زلزلت بنية الاستبداد التي وضعها العهد البائد وسعى في تحصينها على مدى ربع قرن بالنصوص القانونية المفصلة على مقاس رموزه وبالميليشيات المأجورة وبالأتباع المورطين في قضايا الفساد والمحسوبية. ولا يقبل اليوم من اي كان، مهما تكن مبرراته أو منطلقاته او رهاناته، ان يحاول توجيه «رجّاتها الارتدادية» في الاتجاه الذي يخدم مصلحته الضيقة. فللثورة «رجال صدقوا ما عاهدوا ا& عليه» من حماية هذا الوطن من العابثين والسماسرة والانتهازيين. مشهد سياسي غائم وحكومة انتقالية بلحاء السحنة إن الناظر الى المشهد السياسي في تونس اليوم، بعد شهر واحد من نجاح الثورة ورحيل الطاغية، يلاحظ تشنجا موقفيا لدى معظم القوى السياسية المتنامية في مدى غامض الأطراف والدوائر. فالثورة التي فاجأت الجميع بصيغتها وتوقيتها وفاعليها الرئيسيين جعلت النخب السياسية والفكرية عاجزة من مواكبة حركيتها المتنامية وأحدثت شروخا هائلة داخل الكيانات الهزلية التي كانت تعيش على فتات موائد العهد السابق. كما يلاحظ نفس الناظر حكومة انتقالية ضعيفة البنية والأداء تحاول جاهدة استرضاء جميع القطاعات الاجتماعية والمهنية وتتورط في اتخاذ مواقف التفافية وقرارات متسرعة لا تلبث ان تتراجع عنها او تعدلها تحت ضغط شارع منفلت وعصي على التأطير من قبل مؤسسات المجتمع المدني المجهدة التي ما تزال ارجاعها بطيئة. إن تلك المناورة وهذه الشعبوية اللتين دأبت تلك الحكومة على ممارستهما منذ اليوم الاول لانتصابها لن تخدم أحدا، وقد تأتي على جانب كبير من موارد الميزانية العمومية، فضلا عن انها لن تضع حدا للمطالب الاجتماعية والمهنية التي اتخذت نسقا تصاعديا خطيرا في الآونة الاخيرة. وأخطر من ذلك كله ان الحكومة الانتقالية، عوض ان تقول للشعب بصوت عال انها مجرد حكومة وقتية لتصريف الاعمال الجارية او انها حكومة انتقالية تسهر في المقام الاول على صيانة الثورة والاعداد لانتخابات حرة ونزيهة بعيدا عن كل المهاترات والاقصاءات التي مارستها أجهزة الدكتاتور المخلوع، دأب معظم وزرائها على تسويق خطاب يركز على حساسية المرحلة وأهمية الرهانات الوطنية والخيارات الاستراتيجية والحرص على وضع البرامج الطموحة التي لا يمكن تحقيقها في الحقيقة في المدى المنظور، مما يجعل هذه الحكومة غير معنية بها الا من حيث المبدأ حيث إن عليها ألا تبدد الموارد الوطنية المتاحة في مساعدات ظرفية او في تدخلات موقفية معزولة عن سياق التنمية الشاملة. وهنا تضع هذه الحكومة مصداقيتها الهشة على المحك، لأنها لو تمادت في منطق الاستجابة الموقفية الرجعية، عن قصد او عن غير قصد، ستعجّل بنهايتها المأساوية او ستوصل البلاد الى طريق مسدود وتحاول المضي الى الأمام، هربا من الفشل او الاضمحلال، لكن الوقت سيكون أعدى أعداء صدقيّتها لأنها حينئذ لن تلتزم بوعودها الاولى حينما كان أهم رموزها يكررون يوميا أمام وسائل الاعلام «إننا مارون.. إننا عابرو سبيل...» لقد ضربوا لنا الصيف موعدا للانتخابات التاريخية، أليس الصيف بقريب؟.. نرجو صادقين ألا يحلو لهم التسويف وتعز عليهم الكراسي الوثيرة والدوّارة ويغلبهم الصيام في هواجر الايام القائضة، فيقولون لنا لا بأس من التخريف، فالخريف ألطف وأكثر اعتدالا على اي حال. هذا اذا لم يشرّفونا بالاحتفال بالعيد الاول للثورة العظيمة... مسؤولون إداريون مرتبكون... وقرارات تنظيمية ارتجالية من الواضح ان العهد السابق قد ورّط معظم المسؤولين الاداريين، وخاصة السامون منهم، في منطق ولاء مفضوح له «في الحق وفي الباطل». كما أنه غض الطرف متعمّدا عن سوء التصرف الذي كانوا يمارسونه، بل وحماهم بما كان يسمّى ب «الترقيات التأديبية» حتى يصبحوا رهيني منطق «الهروب الى الأمام» وأسيري جدلية «الذنب والمصلحة» ليجدوا أنفسهم في نهاية المطاف ملوّثين بخطايا النظام البائد وسيّئي السمعة وإن سلمت ايادي البعض منهم وهم القلة على أي حال. ولذلك، تراهم جميعا، هذه الايام، يحاولون ان يواكبوا حراك الثورة وأن يكسبوا ودّ منظوريهم ولا سيما الأطراف النقابية المهنية التي ضيّقت عليهم الخناق في الآونة الاخيرة وحاولت فضح ممارساتهم غير القانونية وتجاوزاتهم الادارية في ظل حركة مطلبية تصاعدية النسق لم تشهد لها البلاد مثيلا في تاريخها المعاصر. وحتى يسلموا من الوصم المدمّر، انبرى أولئك المسؤولون بمن فيهم من برأت ذمّته الى اجراء حركة نقل داخلية والى ايقاف بعض المديرين عن العمل واحالة البعض منهم على التقاعد الوجوبي، في مسع واضح الى اسكات الأصوات المندّدة والمتحفظة على حد سواء. ومهما تكن جدية تلك الاجراءات وسلامتها في أحيان كثيرة، إلا أنها من التسرّع والارتجالية بحيث يمكن ان تشمل مسؤولين تنفيذيين نظيفي اليد والطوية فتحرم مؤسساتهم من خبراتهم وكفاءاتهم في مواقعهم المهنية الطبيعية وتخلق فراغا يصعب على ضعاف التجربة او عديميها ملؤه. كما إن من شأن مثل تلك الاجراءات المتشنجة ان تجعل ممّن يطالهم حيفها كبش فداء لحماية كرسي المسؤول الاول عن المؤسسة من الارتجاج تحت قدميه. من الاحتجاج المشروع الى النهزوية المقيتة لا يخفى على الملاحظ المتنبّه ان الانفلات التنظيمي الذي شهدته البلاد غداة الثورة والذي تزامن مع زحف يوميّ للفئات المحرومة من الشغل ومن مورد الرزق على مقرّات الوزارات والولايات والادارات الخدمية مطالبة بلقمة العيش الكريم وبالعدالة الاجتماعية، شجّع صيّادي الفرص والنهز من بين العمّال والموظفين والاطارات على المطالبة الملحّة والمربكة بتحسين الأوضاع المهنية والمادية في مشهد بدا نشازا ضمن أجواء الثورة والتحرر واسترداد الكرامة المهدورة. ان الشعب الذي انجز أوّل ثورة شعبية في العصر الرقمي وقضى على أعتى دكتاتورية أمنية في المنطقة ورفع شعار «الكرامة قبل الخبز» لا يمكن ان يقبل بمثل هذه التصرفات التي تسيء الى نقاوة ثورته ورفعتها. ومع ان مطالب المهنيين المحتجين لا تخلو من الواقعية والشرعية، إلا أنها جاءت في وقت غير مناسب، حيث أن الاولوية الآن لانجاح الثورة وحمايتها من جيوب الردة وحراستها من المندسّين البائسين الذين لم يبق لهم في جعبتهم الا «رقصة الديك الذبيح». وها هم الآن يترنحون يأسا محاولين ايهامنا بأن الثورة قد حرمتنا «نعمة الأمن والاستقرار» وافسدت علينا «فرحة الحياة»، ولكن هيهات، هيهات، فعجلة الزمان لا تسير الى الوراء، ومن ذاق حلاوة الحرية لن يحن بعدها الى مرارة القهر وان اقترنت بالسلامة. ومهما يكن من أمر، فإن الشعب الذي أراد الحياة واستجاب القدر لارادته الصادقة قال كلمته الفاصلة منذ يوم 14 جانفي 2011 وأصدر حكمه البات على الطاغية وزبانيته مقررا أنه لن يعيش في توسن من خانها او من لم يكن من جندها. وبذلك انطبقت عليه كلمات الشاعر: أنا الشعب زلزلة عاتية... ستطفئ نيرانهم غضبتي... أنا الشعب زلزلة عاتية... ستخمد أصواتهم صرختي... أنا النصر لأحراري... أنا النصر لثواري...