باستقالة الوزير الأوّل من مهامه، تكون البلاد قد دخلت منعرجا تاريخيّا جديدا هامّا وعلى غاية من الدقّة، الاستقالة بمعناها السياسي استجابة لمطلب يكاد يكون عامّا على خلفية ارتباط اسم السيّد محمّد الغنوشي بفترة طويلة من عمر النظام السابق، ولكن بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي قد تكون تلك الاستقالة بحسب عديدين ذات انعكاس مرحلي سلبي نظرا لقدرات الرجل المعروفة ومسكه بمختلف الملفات في المجال. ولكن وبتكثّف الأحداث وتتاليها بعد 14 جانفي فقد اتّضح بالمكشوف أنّ سبل إخراج البلاد من مأزقها ونقلها إلى مستوى تطلّعات الشعب وإنجاح مسار الثورة تقتضي رؤية سياسية عميقة وسريعة تستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة بالوضوح المطلوب وبقدر كبير من الشفافيّة وبالسرعة المطلوبة. نعم هي لحظة سياسيّة بامتياز تحتاج قدرا كبيرا من التحليل والتقصّي في سبل الانتقال السلس والسريع دون مساس بهياكل الدولة ودون الإضرار بتطلعات الثورة في القطع مع الماضي وفتح صفحة جديدة من عمر تونس. تحتاج رئاسة الحكومة إلى شخصية تُحسن إدارة المعترك السياسي أوّلا وأخيرا وقبل الخوض في سائر الملفات والقضايا الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة، واجه الوزير الأوّل المستقيل جوانب متعدّدة من المناورات السياسيّة من داخل السلطة ومن خارجها، مثلما بدا ذلك واضحا في خطابه أمس، هذا إلى جانب الضغط الشعبي الكبير والواسع والّذي كبّل عقل الوزير الأوّل وذهنه عن التفكير الممنهج والسليم، حيث تداخلت عليه الأولويات واتّضح البعد التكنوقراطي الصرف في سلوكات الرجل وذهنيته وطرائق عمله. في المقابل تراصّت قوى سياسيّة ونقابيّة وإعلاميّة ومراكز نفوذ متعدّدة في وجه الرجل الّذي لم تبد عليه يوما علامات أو مؤشرات الارتياح أو الانعتاق من الضغوط وربّما التهديدات، فخيّر الانسحاب بعد أن سُدّت في وجهه كلّ الأبواب ولم تتمكّن حتّى الوجوه السياسيّة، والتي لها رصيد من الحنكة والدهاء السياسيين، من أن تُنقذ توجهاته وتمرّرها إلى الرأي العام بل ربّما زادتها تهاويا وانحدارا. ومن المؤكّد أنّ على رئيس الحكومة الجديد وأعضاده أن يعلموا أنّ المخرج إلى الأفضل والأسلم لن يكون إلاّ سياسيّا صرفا لأنّ مغزى وجوهر ثورة 14 جانفي الفارط كانا وبامتياز مطبوعين بتوق وتطلع كبيرين إلى الحرية والكرامة أكثر من بحث عن رغيف خبز. الوزير الأوّل استقال لأنّه عجز عن فعل شيء مّا مُقنع في الملف السياسي، لأنّه على المستوى الإداري والاجتماعي والاقتصادي كان يُمكن للرجل أن ينجح ويُراكم مكاسب حقيقيّة، ومن المؤكّد أنّ وضوح الرؤية السياسيّة وحده هو الّذي يضمنُ لرئيس الحكومة الجديد وللحكومة الجديدة، والتي لا يُمكنها بالمنطق السياسي كذلك إلاّ أن تكون حكومة تصريف أعمال خالية من الوجوه السياسية والحزبية المألوفة، ذلك الوضوح في التعاطي مع الملف السياسي (ملف الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي) هو الكفيل بفتح طريق النجاح والوفاق الوطني وإقناع الرأي العام.