1 فارس نفزاوة في العاشرة دَسَّ طُفولتَهُ جَنْبَ قَبْرِ أبِيه، فِي صُرَّةٍ فِي تُراب أُمِّ الصُّمْعَةْ. فجأةً إِذَا هي كِنْتَايَةٌ. حَوْلَها رَقَصَتْ أَفاعٍ، حَرابِيّ صغيرةٌ. فَتَحَ جرْحًا في صَدْرهِ لِيرَى أحلامًا تَقْطُرُ. تَرَكَها تتعارَكُ مع أَوْجاعِ الأرض. في الخامسة عشرة دفَنَ أُمَّهُ جَنْبَ صُرَّةِ الطِّفْلِ. قَطَعَ شَطَّ الجَرِيد مشْيًا. فرَسُ أبيهِ ماتَتْ. كانت جِمالٌ تَرْغُو على جانِبَيِّ الطريقِ والشاحناتُ تَغْرَقُ بأطفالها النّائمين. الصحراءُ حِينَ تجوع، لا تُفَرِّقُ بين اللَّحْمِ والمَعْدِن. في الثامنة عشرة تَخَفَّفَ من الخِفَّةِ، عَبَرَ السِّباخَ مشْيًا من تُوزرَ إلى تُونس. غداؤُهُ البِسْرُ الحُلْوُ عشاؤُهُ الرَّتْمُ والوحشة. بينما الحنِينُ يَعَضُّ من كُلِّ جانِب. في الثلاثين وَضَعَ شَهادَتَهُ في مِحْفَظَةٍ أَخَذَ يُعَلِّمُ، فارسًا دُونَ فَرَسٍ ولا قَضايَا كبيرة، مِنْ جامع الزّيتونة إلى غار الدِّماء إلى غار الملْح إلى الشُّرَيْفاتْ إلى جبَلِ المَنار، لا كَيْفَ يُطْلِقُ الفارسُ البارُودَ بينما الحصانُ يَجْرِي. لا كَيْفَ يَقِفُ على رأسِهِ بِيَدَيْهِ فَوْقَ السَّرْج ورِجْلاَهُ إلى أَعْلَى. بل كَيْفَ يكون حُرًّا قَدْرَ المُسْتَطاع. لم يَنْتَبِهْ إلى نَفْسِهِ إلاَّ بَعْدَ السِّتِّين. أين نَسِيتُ نَفْسِي سأَلَ لِلَحْظةٍ، قَبْلَ أنْ يُعاوِدَ المَشْيَ في اتِّجاه الآخَرين، حُرًّا كما سيظَلُّ: بِيَدٍ يَقِي أَطفالَهُ الرِّمال، بِالأُخْرَى يُعَلِّمُهُمْ أَنْ يُحَوِّلُوا الرَّمْلَ إلى زُجاج. 2 بحَّةُ الشيخ إمام بينما الأسطوانةُ تَدُورُ، ترفعُ سقْفَ الغُرفةِ، تسألُ الطفلةُ أُمَّها: أليس لهذا المُغنِّي سماءٌ لا بحَّةَ فيها؟ يرقُص الصوتُ بالمعنى، يجعلُ للصّمْتِ فمًا، تمتدُّ بحّتُهُ يَدًا تقْرصُ خَدَّ اللّيل. آهِ لو تعلمين يا ابنتي كَمْ هَرَبْنَا بِبحَّتِهِ في أَشْرِطَةٍ مغْنَاطِيسِيَّةٍ مِنْ عُيُونِ المُخْبِرِين. كَمْ هَرَّبْنَاهُ طويلاً بين الثَّوْبِ والقَلْبِ إلى جُحُورِنَا البسيطةِ. مُلْتَمِّينَ كالأصابع نُعَسِّلُ رائحةَ الهواءِ، نَشْربُ مُرَّ الكلامِ، نَعْشَقُ على صَوْتِهِ نَحْلُمُ، هذا الإمامُ المُغنِّي. كَمْ فَرَشْنا بحَّتَهُ على طُرقاتِنا الجَمْرِ. كَمْ صعدْنا بصوتِه إلى أَعماقِنا المُغَيَّبَةِ. يَنْحَنِي على عُودِهِ إذَا نحنُ نَدْفَأُ. يُغَنِّي إِذَا فَرَحٌ يتَكَسّلُ إِذَا يَدٌ تَطُولُ إِذَا خفْقةُ جناحٍ إِذَا ياسَمِينَةُ حُبٍّ، إِذَا غَدٌ يتملَّصُ مِنْ شُقُوقِ الجُدران. فَجْأَةً يَصْعَدُ بِالرُّوحِ يبحُّ في ذرْوَةِ الصُّعُودِ يَسْعُلُ كَأَنَّهُ يَقُولُ «أَحِمْمْمْ»، تِلْكَ التي تتلوّنُ في أَفْلامِ الأَسْوَدِ وَالأَبْيَضِ، كَيْ يَتَهَيَّأَ المكانُ لِاستقبالِ القادِم. تَنْتَفِضُ الأُسطوانةُ تَطيرُ بحّةُ الشّيخِ تَرْفَعُ سقْفَ الغُرفةِ تقْرُصُ خدَّ اللّيل تتفتَّحُ زنابِقَ على شفاهِ الشّاذلي ونِبْراس وبحر والصّافِي والحمائم البيض وأولاد المناجم. تنتبهُ الطفلةُ فجأةً إلى سماءٍ جديدةٍ. هكذا إِذَنْ، تَكْفِي أَحيانًا عَيْنَا أَعْمَى كَيْ نرَى ما لا نراه! بحَّةُ مُغَنٍّ كَيْ نَقُولَ ما لا نَقُول! 3- منديل نبيهة كان لاَبُدَّ مِنْكِ كَيْ أسألَ: مِنْ أينَ هذا الفَرَحُ الغامِرُ، أنا الغريبُ اليائسُ من اللّيلِ والنّهار؟ كان لاَبُدَّ مِنْكِ كَيْ أسألَ: من أينَ هذا الدِّفْءُ العميقُ، أنا الجَلِيدُ اليابِسُ في جسدٍ كَيْ لا يَتَفَتَّتَ؟ كان لاَبُدَّ مِنْكِ كَيْ أَنْتَبِهَ إلى رقصة الحياة. وَدُونَ أَنْ نَنْبسَ تَعانَقْنا لِيَسْتَيْقِظَ اليائِسُ واليابِسُ. لن أنامَ أعمَى بَعْدَ الآن. لن أَنسَى بَعْدَ الآن أن أقول: أُحِبُّكِ. لن أَنسَى كُلَّ صباحٍ أَنْ أُسَلِّمَ مِنْ قَرِيبٍ على الفُصُولِ تَمُرُّ. كيفَ حالُكِ أسألُ، أَيَّتُها الفُصُولُ الأربعة؟ مُطِلاًّ عليها مِنْكِ، أَنْتِ فَصْلِي الخامِس. هيَ ذِي الأَمْطارُ كُلُّها مِنْ أَجْلِكِ. أَمْطارِي التِي وَقَفْتُها عارِيًا على بابِ المسرح البَلَدِيّ، أَفْرشُ الكُتُبَ من دَرَجَةٍ إلى دَرَجَةٍ، لِأَصْنَعَ لَكِ من رِيشِها أَجْنِحَةً لا تعوقُكِ عن الطَّيَرانِ. أمطارِي التي رَكَضْتُها حافِيًا في قلبِ بابِ البحرِ، أُُطْلِقُ العصافيرَ من شجرةٍ إلى شجرةٍ، لأَكْتُبَ لَكِ في سمائها أُغْنِيةً لا تَكْذبُ عليكِ. أمطارِي التي سَهرْتُها حانيًا على أُسْطُوَانَاتِي القديمةِ، لَكِ منها قرنْفُلَةٌ لا تذْبُلُ في يَدَيْكِ. أمطارِي كُلُّها من أَجْلِكِ. من أَجْلِ هذه اللّحظة. من أجْلِ أَنْ تَعْصِرِينِي قليلاً مِثْلَما تَعْصِرِين مندِيلَكِ. تَرَيْنَ جسدِي يَهْطلُ على قَدَمَيْكِ، بأمطارِي كُلِّها. تَرَيْنَ جسدِي يَنْهَمِرُ على قَدَمَيْكِ، بِكُلِّ ما وَقَفْتُ فِيهِ من أمطارٍ من أَجْلِكِ. تَرَيْنَ أمطارِي كُلَّها تقولُ لَكِ أُُحِبُّكِ وتَخْفُقُ في رِيحِكِ