من أبرز المعاني التي أتى عليها رئيس الوزراء المؤقت باجي قائد السبسي في تصريحاته الأخيرة عبارة «الوحدة الوطنيّة»، وهي عبارة تستند إلى متطلبات عاجلة لمثل هذه المرحلة الانتقالية والحسّاسة من عمر البلاد والّتي تتطلّب توحيدا للجهود واستجماعا لكلّ القوى السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة دون استثناء أو إقصاء لخدمة أهداف الثورة في الانتقال إلى أفق جديد يقطع مع الماضي. ما عدا قضايا الاختلاس والرشوة والفساد والسرقة والتلاعب بمال الشعب وقضايا الظلم والتعذيب والقتل والتي لا يُمكن السكوت عنها وتقتضي تصفية إرثها الدامي والمخزي بشكل عادل وعبر مؤسّسة قضائيّة مستقلة ما عدا ذلك، ستكون أمام تونس وشعبها فرصة نادرة وتاريخيّة لتحقيق انتقال سياسي وديمقراطي فريد ونوعي يحتكمُ بداية من 24 جويلية القادم إلى صندوق الاقتراع ويؤسّس بذلك إلى علاقات مجتمعيّة جديدة قوامها الرأي والرأي الآخر وتحكيم إرادة الشعب وخياراته. إنّها لحظة تاريخيّة خالدة يزدادُ التأكيد والإلحاح على عدم التفويت فيها والحرص على اقتناصها الاقتناص الأمثل مما يكتنفُ الوضعين الإقليمي والدولي من توتّر واضطراب وغموض،إنّها لحظة تتطلّب بحقّ «وحدة وطنيّة» تذهب رأسا إلى القطع مع تصرفات وسلوكيات وسياسات الماضي الّتي قتلت الاختلاف والتنوّع ونمّطت تلك الوحدة في إطار مُعلّب وممجوج أنتج الغبن والقهر والصمت المطبق وخلّف الكثير من المآسي والآلام. إنّ «الوحدة الوطنيّة» المطلوبة اليوم، لا يُمكنها أن تكون بأيّ حال من الأحوال على شاكلة الوحدة الّتي عمل بورقيبة على تحقيقها منذ الاستقلال (مقولة الغُبار Poussière ) ولا يُمكنها أن تكون على نمط الوحدة المهزوزة الّتي نظّر لها الرئيس السابق والتي كان عنوانها الأبرز وحدة الزعيم وفردانيّة الحكم وهيمنة الحزب الحاكم المطلقة والأبديّة. إنّ «الوحدة الوطنيّة» الّتي تنشُدُها ثورة 14 جانفي هي وحدة الضمير ووحدة الأهداف الساميّة والنبيلة، التوحّد خلف رعاية مسار الانتقال الديمقراطي السلمي والمدني المتحضّر بعيدا عن كلّ أصناف التحجّر أو التطرّف أو الغلوّ أو نوايا تصفية الحسابات الشخصيّة والحزبيّة الضيّقة أو إقصاء التنوّع الفكري والسياسي. وربّما، هناك من الأحداث التاريخيّة الّتي تدفعُ إلى التفاؤل بتحقيق تلك الوحدة الوطنيّة المأمولة، وذلك بوجود شخصيّة في قيمة باجي قائد السبسي، السياسي المحنّك، الّذي خبر مُبكرا ومنذ أوائل سبعينيات القرن الماضي معنى رفض الرأي المُخالف بل واكتوى بنيران الإقصاء عندما تمّ طرده من أروقة الحزب الدستوري لمُعارضته رفقة بعض الوجوه الليبراليّة سياسة الحكم الفردي المطلق ونبذوا خيار التصويت للرئاسة مدى الحياة. أمام الرئيس المؤقّت ورئيس الوزراء، فرصة تاريخيّة لكي يتركا بصمة لنفسيهما في صفحات تاريخ تونس الحديث، فرصة لتعميق معنى ومغزى الوحدة الوطنيّة بعيدا عن كلّ تنميط مرعب أو مُخيف أو وحدة خلف أوهام.