لقد عاشت بلادنا منذ الاستقلال تحت وطأة الحكم الفردي الدكتاتوري والرأي الواحد والزعيم الواحد واستحوذ الحزب الدستوري بمسمياته المختلفة على الساحة السياسية وأصبح دولة داخل الدولة ومع مرور الزمن ترهل وشاخ فاستحوذت عليه جحافل المنافقين والمتمعشين وتم استغلاله في أعمال غير ديمقراطية كالتجسس على المعارضين وتشويه سمعتهم إلى حد البلطجة . وحتّى الأحزاب التي سمح لها بالنشاط العلني وقع التضييق عليها وتم توظيفها لمساندة الحكم ومباركة أطروحاته المختلفة واستعمالها ديكورا لديمقراطية مزيفة في انتخابات مزورة . وهذا الحزب الذي ترعرعت فيه نضالات الشعب التونسي ضد الاستعمار الفرنسي تحول إلى آلة غير فاعلة وجامدة خاصة في عهد الرئيس بن علي بل سكت عل المظالم والفساد وبارك الاختيارات المكرسة للدكتاتورية وديمومة الحكم . وهكذا تحولت البلاد إلى دولة الحزب الواحد أو إذا شئنا حزب الدولة وغابت المعارضة الحقيقية وترعرعت الانتهازية السياسية والشللية في جميع مفاصل المجتمع . ورغم تطور الذهنية الفكرية لافراد المجتمع في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العالمية فلم تتحقق في الداخل النقلة النوعية السياسية والتوجه نحو ديمقراطية حقيقية وذلك بفعل تمكن الدكتاتورية وحكم الفرد والحاشية المتنفذة بمساندة الحزب الدستوري من تكميم الافواه وارهاب المثقفين وجميع مكونات المجتمع المدني باستعمال آليات جهنمية فتارة بالاغراء وتارة بالتخويف وهكذا اصبح المجتمع التونسي مكبلا باغلال من حديد وصحراء قاحلة لا يطيب فيها العيش وقد تم توظيف القضاء والادارة لترسيخ هذه الحالة بالزج بالمعارضين في غياهب السجون والمنافي والتنكيل بهم وطرد الموظفين الاكفاء والتضييق عليهم بشتى الطرق . كما تم تطويق الصحافة بالكامل فلم نعد نقرأ أيّ نقد وأيّة كلمة حرة فأصبحت المنظومة الاعلامية مجرد بوق تمجّد الحاكم صباح مساء كما استعمال المال العام لتمويل الرداءة وتكريس عبادة الشخص والحملات الغوغائية والانتخابات المزيفة . والمتتبع للفترة الماضية ومنذ الاستقلال لم يعش الشعب التونسي ديمقراطية حقيقية تتماشى مع تطلعاته وآماله وهو الذي تمكن من التطور المعرفي النوعي بل ظلّ مكبوتا وتتصارع بداخله شتى صنوف التوق إلى غد أفضل . كما بقيت تضحيات اجيال عديدة وتطلعاتها المستميتة نحو ديمقراطية فعلية وحقيقية حلما بعيد المنال حتى جاءت هذه الثورة المجيدة على يد الشباب وقد تم القضاء على رأس الدكتاتورية وبقيت مؤسسته على حالها فكيف يتم تفكيكها والقضاء عليها وبسط الديمقراطية مكانها وذلك دون عودة إلى الماضي؟ فللدكتاتورية نظام كامل تمشي عليه ومؤسسة تعمل بها وجهاز تستعمله لتأبيد حكمها وتوريث آلياتها القمعية والتسلطية فهي ليست فردا واحدا من السهولة بمكان التخلي عنه بل هي كيان سرطاني متمكن من جسد الدولة ومعشش في العقول والافئدة ويصعب بالتالي قلع جذوره والقطع معه . فلا بد من فترة انتقالية تدوم سنوات لتكريس مبادئ الديمقراطية الحقة ورجال صادقين متشبعين بروحها ومنهجها وفكرها في شتى مجالات الحياة المجتمعية، ودور المجتمع المدني في التحول نحو الديمقراطية والقطع مع الدكتاتورية يعتبر مهمّا ومفصليا فلا وجود لديمقراطية دون ديمقراطيين حقيقيين . فكنا نسمع في العهد الماضي بهذه الكلمة السحرية وقد تم استعمالها حقّا اريد به باطل، فلم نر ديمقراطية على أرض الواقع بل دكتاتورية متخلفة وبائسة . وهذا يعني أنّ الكلام عن الديمقراطية في المنابر دون انجاز مبادئها على ارض الواقع لا يعني شيئا والخوف كل الخوف ان يكون الامر مجرّد شعارات جوفاء دون دليل ملموس كما كان الشأن في الماضي . ولتحقيق مبدإ الديمقراطية الحقة والقطع مع الدكتاتورية فلا بد من انجاز المرحلة والخطوات التالية : 1 تصفية تركة الدكتاتورية بالكامل: وذلك عن طريق المحاسبة وكشف كل الحقائق ونشرها للعموم وارجاع ما نهب وسرق إلى أصحابه، فلابد من تنظيف البيت من بقايا الفساد والدكتاتورية والتسلط وتجاوز القانون حتى يتم الدخول على أسس صحيحة وخالية من كل الشوائب والبذور العفنة والمسامير الصدئة . 2 الاستقلال التام للقضاء: دون استقلال تام للقضاء عن السلطة التنفيذية والحياد عن مؤسسة الادارة لا يمكن تحقيق العدالة والنزاهة والشفافية حتى يأخذ كل مظلوم حقه دون تدخلات ولا عراقيل وتوصيات . والعدل أساس العمران كما قال العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة ودون ذلك يعم الخراب والفوضى والمحسوبية وعدم الاستقرار . 3 حرية الإعلام والتعبير: لا يمكن توطين الديمقراطية دون حرية حقيقية للاعلام الذي يعبر بكل صدق عن الرأي المخالف وأفكار المجتمع المدني ويكشف الحقائق بعيدا عن التزلف والتطبيل والإثارة . 4 حرية التحزّب والتجمّع والنقد: حرية الانسان من الحقوق الاساسية ودونها ليس هناك مجتمع مدني ولا ديمقراطية فالحقوق في التنظم والتحزب والتجمع من مقومات الديمقراطية الحقيقية وهي حقوق لكل مجموعة أو فرد يكفلها الدستور وتنظمها المعاهدات الدولية ولا يمكن سلبها أو تحديدها أو تجاوزها . 5 دستور يعطي الحريات للجميع ويقطع مع تأبيد الحكم: الدستور التونسي اصبح بعد التنقيحات العديدة كالثوب البالي المثقوب عل مقاس الدكتاتور وخال من كل مضمون ديمقراطي وفصوله العديدة تحيل الى قوانين متخلفة وغير ديمقراطية كمجلة الانتخابات وغيرها. وبات من الأكيد تغييره جذريا وطرحه على الاستفتاء الشعبي مع الحد من طغيان سلطات رئيس الجمهورية او الذهاب إلى النظام البرلماني مباشرة، فدون دستور ديمقراطي يعطي للحرية وحقوق الانسان المكانة الرفيعة ويضمن للجميع المساواة والعدالة ويقطع مع الدكتاتورية والسلطات الواسعة والإلهية لرئيس الجمهورية مع ضمانات فعلية لا يمكن بكل تأكيد التحول الديمقراطي لانّ كل من يجلس على الكرسي ولا يحمل بذور الديمقراطية ومتشبعا بمبادئها وأسسها يمكن بكل بساطة أن يتخلى عمّا هو مسطر بالدستور بعد ان يكوّن لنفسه جوقة ومريدين كما فعل من جاء من قبله . فكم من متشدّق بالديمقراطية انقلب عليها وأصبح من أعتى الدكتاتوريات في عالمنا اليوم وباسمها اقترف الجرائم والفساد والتجاوزات . 6 فصل الدولة عن الأحزاب: لن تتحقق الديمقراطية الحقيقية اذا لم يتم بصفة نهائية فصل الدولة عن الأحزاب. فقد رأينا بأم العين حسب التجربة التونسية كيف تحولت الدولة ومؤسساتها وخيراتها في خدمة حزب بعينه دون مراعاة حق المواطنة والآخرين وبهذا تم القضاء على الرأي المخالف وتحنيط الحياة السياسية في قوالب جامدة لاتتجاوز التمجيد والولاء الأعمى للحاكم مع التمتع بمزايا غير موضوعية حتى أصبح الانتماء له يمكن من التوظيف والكسب دون كفاءة. وفي الختام لابد أن نبيّن ان التحول الى الديمقراطية الحقيقية يمر بفترة مخاض صعبة والمجتمع يخوضها صعودا وهبوطا حتى يصل الى مرحلة الاستقرار والقطيعة التامة مع الدكتاتورية وقد يمر زمن طويل او قصير حتّى تحقيق هذا الهدف السامي والمهم قطعا هو التحرك الواعي نحو الديمقراطية رغم الاشواك والمعوّقات وأهل الردّة . وكلما تمكن الديمقراطيون الحقيقيون من الصعود إلى القمة كلما اقتربنا من تحقيق المبتغى المنشود كما ان الضمانات القانونية واحتضان المجتمع المدني الموسع للمبادئ الجديدة يرفع من وتيرة إنجازها .