أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    المنتخب التونسي للبايسبول 5 يتوج ببطولة إفريقيا    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    عفاف الهمامي: المواظبة على التعلم تمنح كبار السن قدرات إدراكية تحميهم من الزهايمر    خطير: النوم بعد الحادية عشرة ليلاََ يزيد خطر النوبات القلبية بنسبة 60٪    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    شوف وين تتفرّج: الدربي ومواجهات الجولة 14 اليوم    التشكيلات المحتملة للدربي المنتظر اليوم    تعرفش شكون أكثر لاعب سجل حضوره في دربي الترجي والإفريقي؟    سحب وأمطار بالشمال وانخفاض طفيف في الحرارة    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    النواب يناقشو مهمة رئاسة الحكومة: مشاريع معطّلة، إصلاح إداري، ومكافحة الفساد    اختتام الدورة الثالثة للمهرجان الوطني للمسرح التونسي "مواسم الإبداع": مسرحية "الهاربات" لوفاء الطبوبي تُتوّج بجائزة أفضل عمل متكامل    الأربعاء المقبل / إطلاق تحدّي " تحدّ ذكاءك الاصطناعي" بالمدرسة العليا للتجارة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    الجزائر.. الجيش يحذر من "مخططات خبيثة" تستهدف أمن واستقرار البلاد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    تركيا: 6 قتلى في حريق بمستودع للعطور والسلطات تحقق    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    تشيلسي يصعد لوصافة الدوري الإنجليزي بالفوز على وولفرهامبتون    الأحد: أمطار رعدية والحرارة في انخفاض    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    منخفض جوي وحالة عدم استقرار بهذه المناطق    زيادة في ميزانية رئاسة الحكومة    وزارة الصحة: 1638 فحص أسنان: 731 حالة تحتاج متابعة و123 تلميذ تعالجوا فورياً    منتدى تونس لتطوير الطب الصيني الإفريقي يومي 21 و22 نوفمبر 2025    تونس تحتضن ندوة دولية حول التغيرات المناخية والانتقال الطاقي في أكتوبر 2026    الدورة 44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب: 10أجنحة تمثل قطاع النشر التونسي    من كلمات الجليدي العويني وألحان منير الغضاب: «خطوات» فيديو كليب جديد للمطربة عفيفة العويني    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    عماد الأمن الغذائي والمنظومة الإنتاجية .. الدعم لإنعاش الفلاّح وإنقاذ الفلاحة    الجولة 12 لبطولة النخب لكرة اليد :سبورتينغ المكنين وجمعية الحمامات ابرز مستفيدين    دعوة الى رؤية بيئية جديدة    رئيس الجمهورية يكلّف المهندس علي بن حمودة بتشكيل فريق لإيجاد حلول عاجلة في قابس    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    ألعاب التضامن الإسلامي – الرياض 2025: فضية لجميلة بولكباش في سباق 800 متر سباحة حرة    ربع التوانسة بعد الأربعين مهدّدين بتآكل غضروف الركبة!    الرابطة الثانية – الجولة 8 (الدفعة الثانية): النتائج والترتيب    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    البنك المركزي: نشاط القطاع المصرفي يتركز على البنوك المقيمة    عاجل: من مساء السبت والى الأحد أمطار رعدية غزيرة ورياح تتجاوز 90 كلم/س بهذه المناطق    الدورة الاولى لمهرجان بذرتنا يومي 22 و23 نوفمبر بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس    عاجل/ محاولة اغتيال سفيرة إسرائيل بالمكسيك: ايران ترد على اتهامها..    هام/ الهيئة الوطنيّة للوقاية من التعذيب تنتدب..#خبر_عاجل    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    بايدن يوجه انتقادا حادا لترامب وحاشيته: "لا ملوك في الديمقراطية"    جلسة عمل بوزارة الصحة لتقييم مدى تقدم الخطة الوطنية لمقاومة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية    أمطار بهذه المناطق خلال الليلة المقبلة    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    عاجل: حدث نادر فالسماء القمر يلتقي بزحل ونبتون قدام عينيك..هذا الموعد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التوافق التونسي.. من الأيديولوجيا إلى الضرورة : رياض الشعيبي
نشر في الحوار نت يوم 31 - 12 - 2010

بقي الاختلاف إلى حين شاسعا بين نموذجين للمجتمع التونسي، نموذج علماني تقدّمي تصدّر المشهد السياسي لكنه عادة ما يتهم بأنّه تغريبي واستمرار للمشروع الاستعماري الفرنسي في البلاد، ونموذج قومي حضاري باهت في صورته الأولية عاجز عن أن يسلك طريقه في الواقع تحت وطأة الملاحقة الفكرية والإقصاء السياسي. غير أن هذه الصورة النمطية التي صبغت عقودا من الصراع القاتل بين هذين النموذجين، تغيّرت في السنوات الأخيرة بعدما تشكلت توافقات سياسية جديدة على أساس رؤية مجتمعية دنيا أعادت بناء العلاقة بين الفكري والسياسي في مرجعية كل أطرافها. كما أعطت هذه التحالفات صورة جديدة عن الحراك السياسي داخل المجتمع التونسي، في علاقته بتقاليد العمل السياسي بالبلاد منذ الاستقلال، وفي نموذج الالتقاء العلماني الإسلامي الذي أصبح محل متابعة إعلامية وسياسية عربية ودولية.
تاريخية فكرة التوافق في المنتظم السياسي التونسي الحديث
من الجدير بالملاحظة أن دولة الاستقلال التونسية قامت منذ تشكلها على طابع إقصائي ليس بغريب عن الرّؤية الحداثيّة الفرنكفونيّة التي حملها بعض زعماء الحركة الوطنيّة من أصحاب التعليم العصري الذي آل بأصحابه إلى الجامعات الغربية وخاصّة الفرنسية. لم تر فكرة التوافق السياسي النّور آنذاك رغم وجود تنوع حقيقي في الواقع السياسي والاجتماعي التونسي(1) في النصف الأوّل من القرن العشرين. تنوّع بين رؤية تجد تعبيراتها في قضايا المرأة ومؤسِّسات الدولة القطرية وتنظيماتها العمومية والتحديث البنيوي وبين رؤية عروبيّة إسلامية جمعت بين لسان الثقافة العربية وروح مشروعها المجتمعي واعرافه والطابع القومي الحضاري. فكان لإقصاء التيار العروبي الإسلامي واستغلال مشروع التحديث القسري لمؤسسات الدولة وإمكاناتها المادية والمعنوية وقوتها التخطيطية، الأثر العميق في زرع روح عدم التسامح ورفض المختلف وتجذير العنف كممارسة شائعة في المنتظم السياسي وحتى الاجتماعي التونسي الحديث.
برز ذلك في مسار الحراك السياسي والاجتماعي على امتداد عقود من الاستقلال التّبعيّ والتحديث القسري، في العنف السياسي المنظم الذي مارسته المؤسسات العمومية ومن خلال عقيدة التغيير الثوري التي سادت مختلف الفاعلين السياسيين، وعبر حركات التمرد المسلحة المدعومة خارجيا أو المتدحرجة من أجهزة الدولة. ولكن الاثر الأبرز تمثل في الإضرابات الاجتماعية التي وجّهها الاتحاد العام التونسي للشغل أو الاضطرابات العفوية التي أشعل نارها الشارع التونسي الناقم على خيارات السلطة الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافيّة. وأخيرا ما ظهر من إرهاصات تفاعل صحويّ محلّي مع موجة قاعدة الجهاد العالمي ضد التسلّط والاستكبار.
تولدت على أرضية دولة الاستقلال حساسيات فكرية وسياسية عديدة ما كان لها لتدرك أهمية فكرة التوافق وتأثيرها في الفاعلية النضالية لقوى التغيير ونجاعة تصوراتها المجتمعية البديلة. لذلك أصبح التميز الفكري في السبعينات خاصة ،وفي إطار العائلة اليسارية على الأخص، عنوان الامتياز السياسي دون اعتبار لتشتت الآراء وضعف البدائل. ما كان متوقعا رواج فكرة التوافق في مرحلة تاريخية سادتها الطوباوية الثورية والطهرية النضالية والإيديولوجيات الشمولية. بل إن من آليات التاريخ التقدمي الصراع الثوري العنيف ضد الرجعية الرسمية والظلامية الأصولية بحسب التصورات الماركسية اللينينية التي كانت تعد الايدولوجيا الغالبة لشتات اليسار التونسي آنذاك. وفي الحقيقة، ما كانت الجماعة الإسلامية انذاك وبقية التشكيلات الحزبية قابلة بفكرة التوافق، ومدرجة لها في بنية وعيها ونضج تقديرها، إلا ما ظهر من بعض الطفرات والإرهاصات المبكرة في البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي وفي فكر زعيمها الشيخ راشد الغنوشي، أو في الانفتاح السياسي على مختلف الفرقاء لرئيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين الإصلاحية السيد احمد المستيري.
لقد كان الاختلاف الإيديولوجي يشق عميقا النخب السياسية والثقافية التونسيّة ويتعدى مجرد المعارضة الحزبية، كما نراها في المجتمعات الديمقراطية الحديثة، ليثير الصراع حول النموذج المجتمعي الأنسب للواقع التونسي، كما لو كان الجميع ينهل من القول البورقيبي بأن هذا "الشعب ذرات من غبار" يمكن تأليفها وإعادة تركيبها وفق النمط المفترض.
من المفارقات أنّ هذه الخلفيات السياسية والإيديولوجية ما كان لها لتؤشّر على إمكان قيام تحالفات بين فرقاء سياسيين لولا ما قامت به مختلف الأطراف من تقليب للأمر على وجهيه. من وجهة أولى تقدير المصلحة الوطنية في قيام توافقات سياسية واسعة، من خلال وعي ذاتي مكّن مختلف الأطراف المتحالفة من تجاوز العائق الجيني- بوليتيك المشترك بينها، والمتمثّل في ضرب من التنافي بما استقرّ في الذاكرة الجمعيّة من موروث الإقصاء السياسي والفكري الذي طبّعت معه دولة الاستقلال فأحالته ثقافة سياسية دارجة. أمّا الوجهة الثانية، لهذه التحالفات فتتعلق بالانغلاق السياسي التام الذي أعجز مختلف الأطراف عن مواجهته منفردة، لانحسار في امتدادها الجماهيري أو لمعوقات قانونية وسياسية تتعلق بشرعية تواجدها فضلا عن فاعليتها السياسية والإعلاميّة. هذا التعاضد بين الرغبة في رفع التحديات القاتلة التي جعلت من الحراك السياسي عملا عبثيا أمام تغوّل الدولة ومؤسّساتها، وبين مراجعات فكريّة وسياسيّة امتدت على عشريّة التّسعينات من القرن الماضي، بلور بوضوح فكرة التوافق السياسي في الواقع التونسي.
ولئن حاولت السلطة تشكيل أرضية سياسية تؤسّس عليها مشروعيتها من خلال "الميثاق الوطني"، ثم عبر مقولة الوحدة الوطنية، وأخيرا عبر حزام من أحزاب الموالاة، فإنها كانت في كل مرة تفشل في مشروعها في أن تنشئ حالة توافقية حقيقية. وعوض أن تكون فكرة التوافق السياسي منطلقا لمشروعية سياساتها. فإنها تصبح منزلقا لممارسة أشكال متعددة من الإقصاء والتهميش تتحول معه إلى سياسات دفاعية تبريريّة عاجزة عن التخلص من نوازع الاستلاب. لذلك فان فكرة التوافق السياسي في الواقع التونسي لا يمكن فهمها إلا إذا كانت قائمة على استقلالية الإرادة والقرار السياسيين لمختلف الأطراف دون اعتبار حجمها أو أسسها الفكرية والسياسية. وهذا حال التوافقات التي نشهدها منذ مدة بين أحزاب المعارضة الجادّة المعترف بها قانونا أو تلك التي تفتقد هذا الاعتراف لكنها تملك مصداقية سياسية وواقعيّة.
موقع التيّار الإسلامي من خارطة التّحالفات السّياسيّة الجديدة
المتأمل في الحياة السياسية في تونس، خلال السّنوات الأخيرة، يلاحظ أنّها تتقاسمها ثلاثة تحالفات أساسية لم ترتق جميعها إلى مستوى التّوافق حول النموذج المجتمعي: - السلطة التي تتخذ التجمع الدستوري الديمقراطي واجهة حزبية لسياساتها، وتوسّع أرضيتها السياسية عبر تأطير أحزاب الموالاة - تحالف المواطنة والمساواة - هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات.
1) السلطة وحلفاؤها: حسمت سلطة 7نوفمبر 1987 أمرها مبكرا باحتضان الحزب الاشتراكي الدستوري الذي حكم البلاد منذ الاستقلال وعلى امتداد ثلاثين سنة. فلم تزد عن تغيير اسمه ليصبح التجمع الدستوري الديمقراطي وضخّت داخله باستمرار قوى يسارية رجّحت في إستراتيجيتها تقديم مواجهة الخطر الإسلامي على قوى الاستغلال الرّأسمالي. كما أحاطت السّلطة آلتها السياسيّة بأحزاب معترف بها تتجمع حول البرنامج السياسي للرئيس زين العابدين بن علي والمشروع السّلطوي لعهده الجديد. مثّل اجتماع الحزب الحاكم من جهة، وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين والحزب الاجتماعي التحرري والوحدة الشعبية والاتحاد الوحدوي الديمقراطي والخضر كأحزاب موالاة مضاف إليها بعض فسيفساء اليسار التونسي وبعض الشخصيات الدينية من جهة ثانية، الإخراج السياسي لفكرة الوحدة الوطنية حول الرّئيس بن علي. ما يلاحظ في هذا التحالف أنه مرتبط بالسلطة وبخياراتها، بل انه يتمحور حول نوع من الزبونية السياسية والالتفاف المغشوش حول برنامج رئاسي لسلطة تٌحوّل الأحزاب الموالية لها إلى أجراء عموميين. لذلك تغيب الرؤية السياسية المشتركة حول مجمل القضايا الوطنية فضلا عن المشروع المجتمعي الواحد.
2) تحالف المواطنة والمساواة: تشكل بمناسبة الانتخابات الرئاسية والتشريعية 2009. شمل هذا التحالف حزب التجديد، الذي غير اسمه القديم أي الحزب الشيوعي التونسي كما غيّر بعضا من أرضيته الفكرية والسياسية، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، الذي جمع عددا من نخب فاعلة من عائلات سياسية متنوعة، وحزب العمل الوطني الديمقراطي، أحد الأحزاب اليسارية الراديكالية، وتيار الإصلاح والتنمية، الذي جمعته تجربة اندماج فاشلة ضمن الحزب الديمقراطي التقدمي وهو مزيج من الإسلاميين التقدميين والعلمانيين، ومجموعة من المناضلين السياسيين المستقلين. "هذه الأطراف السياسية ترى أن القواسم المشتركة التي تجمعها تشكل منطلقا لعمل سياسي مثمر يلبي حاجة البلاد للإصلاح ويستجيب لانتظارات المواطنين ويمكن المعارضة الديمقراطية من تجاوز تشتتها ومن التطور والنجاعة، ويتأسس على قيم مشتركة من شأنها أن تعزز تماسك المجتمع وتجسد تضامنه، وتضمن استقلال البلاد واستقلالية قرارها"(2).
هذا التحالف ولئن تجاوز بسرعة الصعوبات الفكرية التي اعترضت هيئة 18 أكتوبر، مؤكدا على النهج الإصلاحي المرن وغير المتشنّج والرؤية السياسية القائمة على "رفض توظيف الدين في الصراع السياسي والالتزام باستبعاد مسألة الهوية من دائرة المزايدات السياسية، وتعلقا منها بمبدئية استقلال قرارها السياسي واحترام مؤسسات الدولة، وتشبثا بضرورة الاحترام المتبادل بين كل الأطراف السياسية مهما اختلفت رؤاها ومواقفها، وتمسكا بأهمية البناء على ما هو مشترك دون طمس الاختلافات، واعتماد مقاربة ناجعة تمكّن من تجاوز العقبات القائمة على طريق التغيير الديمقراطي السلمي"(3)، إلا أن ضعف تمثيليته للحساسيات السياسية والفكرية في الواقع جعلت من توافقاته حول الحريات وحقوق الإنسان ومدنية الدولة والهوية العربية الإسلامية للبلاد ذات تأثير محدود في الحراك السياسي العام. بل إن تشكل هذا التحالف المتأخر زمنيا دفع للتساؤل عن الأسباب الحقيقية لانعقاده منفردا دون الانضمام إلى هيئة 18 أكتوبر التي سبقته والتي لا تختلف عنه لا من جهة المطالب السياسية ولا من جهة نوعية مكوناته الايديولوجيّة.
3) هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات: ضمت مجموعة من الأحزاب اليسارية والإسلامية والعلمانية والقومية وبعض الشخصيات الوطنية والحقوقية المعارضة:
- تشكلت هذه الهيئة بداية حول مطالب أساسية هي العفو التشريعي العام وحرية التعبير وحرية التنظم واستقلال القضاء ومقاومة الفساد وتوفير شروط انتخابات حرة ونزيهة. لكن أعضاء هذه الهيئة سرعان ما تحولوا إلى التقاء سياسي وفكري حول مشروع للانتقال الديمقراطي.
- ما تميز به هذا التحالف هو اجتماع الإسلاميين ممثلين في حركة النهضة مع خصومهم الإيديولوجيين الأشد أي حزب العمال الشيوعي التونسي في حوار فكري سياسي يعد سابقة في علاقات الأطراف السياسية في تونس. كما تضمن هذا التحالف الحزب الديمقراطي التقدمي الأكثر انفتاحا على الإسلاميين الخارجين للتو من سجونهم الطويلة والمنهكة، والمؤتمر من أجل الجمهورية والتيار الناصري وشخصيات هامة على الساحة الحقوقية والسياسية التونسية.
- تحوّل هذا الالتقاء النضالي الحقوقي إلى حوار حول أرضية فكرية لمشروع مجتمعي مشترك بين شركاء الهيئة، أنتج ثلاث ورقات فكرية أساسية أولى حول حرية المرأة ومجلة الأحوال الشخصية ثم ثانية تتعلق بحرية الضمير والمعتقد وأخيرا ثالثة حول الدولة والهوية.
أهمّ التّوافقات النّظرية والإستراتيجية بين العائلات السياسية التونسية
يبدو اليوم أن أرضية الفكر السياسي تقرّب الفرقاء السياسيين التونسيين أكثر مما تباعد بينهم بغض النظر عن تموقعهم ضمن تحالفات متعددة. فتعدّد التحالفات لا يعكس تناقضا بين أطروحات الأحزاب غير المنضوية في تحالف واحد، كما لا يعكس التقاء المتحالفين توافقا أكبر من غير المتحالفين. ففي قضية ذات أهمية بالغة في المجتمع التونسي مثل قضية الاستبداد يكاد يصطف الجميع متمترسين بمبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة والحكم الرشيد حيث تغيب الفوارق الإيديولوجية. وفي قضية ثانية كقضية الهوية بات الإجماع واضحا اليوم أنّ الانتماء العربي الإسلامي للمجتمع التونسي ليس مجرد قضية تاريخية إنما أيضا هويته الثابتة التي لا ينازعها فيها أحد. وكذا الأمر فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية ومقاومة الفساد وإرساء آليات توزيع عادلة للثروة وتثبيت مكاسب العمال فضلا عن تدعيمها. إذ يجب على الدولة الديمقراطية المنشودة "مساندة القضايا العادلة في العالم والدفاع عن تطلعات الشعوب العربية والإسلامية المشروعة نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كما تعمل على مكافحة كل أشكال الاضطهاد الداخلي والاستعمار والهيمنة الخارجية"(4).
ولقد تكثفت هذه التوافقات حول ثلاثة محاور:
1) القضايا المنهجية والسياسية: القبول بالتداول السلمي على السلطة وفق انتخابات حرة ونزيهة والتعايش الحواري بين مختلف الحساسيات – التوافق على مبدأ المواطنة كأساس للحقوق والواجبات في دولة مدنية تحترم الحريات وتحفظها(5) – احترام الحريات العامة والأساسية التي نصت عليها كل الاتفاقات الدولية.
2) في التحديث المجتمعي: اعتبار قضايا المرأة وتحريرها الكامل العنوان الأبرز للتحديث المجتمعي(6) – التأكيد على أهمية تعريب التعليم والثقافة في المحافظة على الهوية الوطنية التونسيّة - مراعاة ثقافة المجتمع وأعرافه ومقدساته في كل تقنين للحياة العامة(7) - الانفتاح الثقافي واعتبار الحداثة الإنسانية كمعيار للتمدن المجتمعي.
3) التموقع الجيو-إستراتيجي للبلاد: الاتفاق على العمق الحضاري والاستراتيجي للبلاد وانتماءاتها العربية والإسلامية (8) – مراعاة العلاقات التاريخية والثقافية بالغرب الأوروبي.
هذه التوافقات حول النمط الحياتي والنموذج المجتمعي المنشود بين مختلف الحساسيات الفكرية المنضوية في "تحالف المواطنة والمساواة" وضمن "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" وحتى مع بعض القوى السياسية والمهنية والجمعوية الأخرى، مازالت تفتقد عوامل القوة التي تجعلها تتحول بيسر إلى تيّار وطني جامع بسبب ما يعانيه المجتمع السياسي التونسي من ترهّل هيكلي واختراق سياسي وتنازع زعامات.
رياض الشعيبي: كاتب تونسي.
هوامش الدراسة
1 - نجد تفصيلا كاملا للتنوع الفكري داخل المجتمع التونسي خلال النصف الأوّل من القرن العشرين في كتاب محمد الفاضل بن عاشور: الحركة الأدبية والفكرية في تونس- الدار التونسية للنشر 1978.
2 - مشروع أرضية تحالف المواطنة والمساواة 10 جوان 2010.
3 - نفس المرجع.
4 - وثيقة هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بتونس - باريس: 2005-2010: بناء تحالف واسع للتغيير الديمقراطي في تونس.
5 - "الديمقراطية المنشودة لا يمكن أن تكون إلا دولة مدنية، قائمة على مبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان، وتستمد مشروعيتها من إرادة الشعب، وتقوم على مبادئ المواطنة والحرية والمساواة وتسهر على ضمان حرية المعتقد والتفكير، ومقاومة كل أشكال التمييز بين المواطنين" وثيقة الدولة والدين والهوية الصادرة عن هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات.
6 - "حققت المرأة التونسية مكاسب هامة على طريق تحررها كإنسان ومشاركتها على قدم من المساواة مع الرجل في مختلف مجالات الحياة، وجاءت هذه المكاسب ثمرة لحركة الإصلاح التي حمل لواءها مفكرون ومصلحون كبار كان لهم شرف الدفاع عن تعليم المرأة وتحريرها والنهوض بأوضاعها كما جاءت ثمرة لنضال دؤوب خاضته حركات نسائية من مختف المشارب الفكرية عملت على مدى القرن الماضي على فك عقال المرأة وإخراجها إلى الحياة العامة" إعلان هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين.
7 - إن ضمان حرية الضمير وحمايتها، وتفعيل المبادئ العالمية لحقوق الإنسان ونصوص المعاهدات الدولية لا يتعارض إطلاقا مع مكانة الإسلام ووزنه ومع الإرث الثقافي العربي-الإسلامي في مجتمعنا، بل إنه يفضي إلى تفاعل خلاق بين هذه الأخيرة ومكتسبات الحداثة الإنسانية بعيدا عن أي اغتراب ثقافي، وإلى اجتهاد بشري مفتوح للجميع بعيدا عن نزوعات الاحتكار أوالقداسة" وثيقة هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بتونس - باريس: 2005-2010: بناء تحالف واسع للتغيير الديمقراطي في تونس.
8 - "ويمثل الإسلام، باعتباره ديانة غالبية التونسيات والتونسيين، كما أصالة انتماء المجتمع للحضارة العربية-الإسلامية، دعامة ذات أهمية خاصة لهذه الدولة الديمقراطية. دون أن يشرّع ذلك لأيّ شكل من أشكال الاحتكار أو التوظيف" نفس المرجع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.