بعد شهرين تقريبا من رحيل الرئيس السابق زين العابدين بن علي وخلعه جاء الدور على رحيل حزب الدستور الحاكم في النظام المنهار. وقد تم إصدار حكم لحله بعد الدعوى التي أقامتها وزارة الداخلية على خلفية «إضرار الحزب بالبلاد»، وكان التجمع الدستوري الديمقراطي يعتبر وريثا للحزب الحر الدستوري التونسي الذي تأسس سنة 1920 بزعامة الشيخ عبدالعزيز الثعالبي سنة بعد تأسيس «الوفد» في مصر بزعامة سعد زغلول، وعلى خلفية توجهات البورجوازية الوطنية، وهو ما يفسر تسميته بالحر بمفهوم ليبيرالي مباشرة بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا، وعلى أساس العودة إلى دستور 1861 الذي يعتبر أقدم دستور في العالم العربي، فيما يعني أن الدستور يساوي الإستقلال عن فرنسا. وفي سنة 1934 انشق بورقيبة عن حزب الدستور، واستحوذ هو ومجموعة ما كان يسمى بالشباب العائدين للتو من الجامعات الفرنسية مسلحين بمبادئ الثورة، واعتبر حزب الدستور بزعامة بورقيبة هو الذي حرر البلاد وقادها إلى الإستقلال بعد ثورة عارمة استمرت 20 سنة. ثم إن هذا الحزب الدستوري قام ببناء الدولة، وبعكس الإستعمار الإنقليزي الذي لا يحكم مباشرة فإن الإستعمار الفرنسي يمارس الحكم المباشر وبالتالي يقضي على أجهزة الدولة، وفي الأثناء أقدم الحزب الدستوري على القيام بجملة من المبادرات التشريعية لبناء دولة الحداثة وسن قوانين اعتبرت في غاية التقدمية ما زالت تدفع بالتنمية البشرية والإقتصادية والإجتماعية. غير أن ذلك الحزب وبعد أن كان يمارس المبادئ الديمقراطية سريعا ما انحدر بعد الإستقلال إلى ممارسات استبدادية داخل صفوفه وفي تسييره للبلاد، وغابت عنه سمته الأصلية ومنذ سنة 1962، وبعد اكتشاف محاولة انقلابية تم القضاء عليها في المهد، تمت الإستعاضة في حزب الدستور عن الإنتخاب في كل مستويات المسؤولية بالتعيين من طرف رئيس الدولة رئيس الحزب الحبيب بورقيبة. وما جاءت سنة 1964 حتى تم استكمال جهاز تحويل الحزب الذي بات التعيين ركيزته الرئيسية، لا إلى حزب حاكم، بل إلى حزب محكوم مهمته الأولى هي تبليغ التعليمات وتنفيذها وحتى فرضها، وفي الفترة بين 1964 و1969 انحاز بورقيبة الليبيرالي إلى ممارسة اشتراكية مخالفة لطبيعة توجهاته، وتعامل مع الحزب والبلاد بطريقة الأحزاب الشيوعية المتسلطة، وقد أكد مؤتمر ذلك الحزب لسنة 1971 التوجه التسلطي على الصعيد السياسي رغم العودة للتوجهات الليبيرالية الإقتصادية ، وعين بورقيبة القيادات الحزبية في تناقض كامل مع نتائج المؤتمر، بل وتم طرد المناوئين الذين كانوا يدعون إلى جرعة من الممارسة الديمقراطية والذين أحرزوا الأغلبية في ذلك المؤتمر. وعندما قام بن علي بانقلابه المشهود على بورقيبة بواسطة قوى الأمن لا الجيش في 7 نوفمبر 1987 وهي سابقة في تاريخ الإنقلابات، استحوذ مع رئاسة الدولة على رئاسة الحزب الدستوري رغم أنه لم يكن ضمن صفوفه باعتباره رجلا عسكريا في بلد لا يحق فيه للعسكر ممارسة أي نشاط سياسي. وكما هو الأمر في أي جيش قام الرئيس الجديد بتحويل الحزب الدستوري العريق إلى ما يشبه الفرقة العسكرية، يأتمر بالأوامر وينفذها دون نقاش، ويقوم على التعيين بدل الإنتخاب، وإن افتخر التجمع الدستوري الديمقراطي وهي التسمية الجديدة التي اعتمدها بن علي بأنه يضم 2.4 مليون منخرط أي ربع عدد سكان البلاد، فقد أظهر الواقع أن غالب هؤلاء لا يحملون أي استعداد نضالي، ما دفع للإعتقاد بأن ذلك الحزب امتلأ بالإنتهازيين الذين إما أنهم يريدون الصعود أو الحصول على جزء من الكعكة أو إنهم يسعون فقط إلى الحفاظ على امتيازاتهم التي تضخمت بمرور الأيام مع استشراء النهب المنظم لمقدرات الدولة. ولذلك وعندما قامت الثورة وهرب بن علي سارع أعضاء الديوان السياسي أي القيادة العليا للإستقالة تاركين السفينة قبل أن تغرق، كما استقال أعداد كبيرة من مسؤولي المؤسسات الوسيطة في المستوى المركزي وفي مستوى الولايات، وتبين أن التجمع الدستوري ليس له وجود إلا على الورق، ما يعني وكأنه حل نفسه بنفسه، قبل أن تحله المحاكم بحكم قضائي يوم 9 مارس الجاري، وهو ما اعتبره الكثيرون يوم عيد كما هو حال يوم نجاح الثورة في 14 جانفي 2011. وبمقتضى قانون الأحزاب فإن أي حزب يتم حله ترجع مكاسبه النقدية والعقارية والمنقولة إلى خزينة الدولة، وكان الحزب الحاكم يستخدم 9 آلاف من الموظفين في مقراته الأغلب الأعم منهم من موظفي الدولة المعارين والذين يتقاضون رواتبهم من المصالح الحكومية التي ينتمون إليها، وهؤلاء من حقهم أن يعودوا لمصالحهم الأصلية وهو عبء بشري ستتحمله أجهزة السلطة أحيانا دون حاجة إلى وجودهم. معنى هذا أن الأحزاب لا تتشكل بقرار ولا تنحل بحكم، والتجمع الدستوري غاب فعليا عن الساحة قبل أن يصدر حكم بحله باعتباره فقد شرعيته كحزب سياسي،خصوصا بعدما تنكرت له قياداته. غير أن السؤال المطروح هو ما الذي سيفعله كوادر هذا الحزب وقيادييه؟ أولا إن هناك الكثير من الدستوريين زمن بورقيبة من رفعوا عقيرتهم اليوم قائلين بأن بن علي قد سرق منهم حزبهم ووضعهم خارج هياكله ووضع مكانهم مجموعات من الإنتهازيين من اليسار واليمين بينما يعتبرون حزبهم منتميا إلى وسط اليسار. ثانيا أن كوادر عالية كانت في القيادات العليا والمتوسطة قامت بتأسيس أحزاب جديدة تجد في عناوينها تردادا لكلمة الدستور والدستوريين والبورقيبيين وكل ما يوحي بالعودة للأصول، غير أن غالب هذه الأحزاب تبدو صغيرة وهي تحاول القطع مع حقبة بن علي. ثالثا وفي خضم حوالي 50 إلى 60 حزبا مؤسسا بين من نالت الترخيص ومن تنتظر ومن تعد العدة لتقديم مطالبها فإن الدستوريين يبدون عدديا أقلية في خضم كل الأحزاب المنتمية إلى التوجهات القومية والإسلامية واليسارية الشيوعية من تنتسب للماركسية والماوية ولأنور خوجة الرئيس الألباني الأسبق والتروتسكية وغيرهم. أما السؤال المطروح الآخر فهو هل تكون الساحة السياسية جاهزة لانتخابات مجلس تأسيسي تحدد موعد انتخابه لليوم الرابع والعشرين من شهر جويلية المقبل، في ظل هذا التشرذم من جهة والتصحر السياسي وغياب زعامات تتمتع بحد أدنى من الكاريسما من جهة أخرى؟ في الصورة الحالية كما يبدو من عملية استطلاع للرأي فإن الناس يعرفون من بين الأحزاب على الساحة ( وهذا لا يعني التصويت لها) حزب النهضة الإسلامي بنسبة 29 في المائة وحزب التحرير الإسلامي الذي ينادي بالخلافة 3.3 في المائة ومن الأحزاب التي كانت قائمة قبل الثورة 5 أحزاب ومن الأحزاب الجديدة 7 من بينها حزبان اثنان ينتسبان على مايبدو للوافدين من حزب الدستور المنحل. فسيفساء ينبغي تفكيك عناصرها لمحاولة الفهم