أثارت ما عرف بقضية لجنة تقصي الحقائق حول قضايا الرشوة والفساد العديد من الاشكاليات والأسئلة ومثّل توجّه بعض المحامين الى القضاء نقطة مفصلية في هذا الملف. وبصرف النظر عن شرعية اللجنة من عدمه وهذا أمر موضوع جدل يمكن أن تغيب فيه الحقيقة الواحدة، إلاّ أنه يمكننا أن نطرح سؤالا حول خلفيات الدعوى القضائية وما يمكن أن نقرأه في الحكم القضائي الصادر ضدّ اللجنة والقاضي بتوقيف نشاطها. عندما توجه أعضاء اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول قضايا الرشوة والفساد يوم 19 فيفري الماضي الى قصر بن علي بضاحية سيدي بوسعيد وما شاهدناه خلال عملية دخول القصر وتفتيشه من حجز لمبالغ مالية خيالية. وقد أثارت تلك الصور ردود أفعال متعدّدة ومختلفة بين المستغرب من حجم النهب وبين من اعتبر الأمر مجرد مسرحية لتهدئة المناخ السياسي والاجتماعي الثائر، إلاّ أنه برز موقف آخر اعتبر أن أعمال اللجنة قامت مقام القضاء وطمست بذلك أدلة على إدانة بن علي وجماعته ومثل هذا الرأي خاصة عدد من القضاة والمحامين. لذلك، اعتصم لأول مرة في تاريخ تونس عدد من القضاة أمام مبنى قصر العدالة بتونس احتجاجا على ما اعتبروه اقصاء لهم وضربا لاستقلالية القضاء وتجاوزا للاجراءات القانونية المعمول بها ممّا يوفر شرطا لطعن دفاع المتهمين في اجراءات الحجز وإثبات القرائن. كما احتجّ عدد من المحامين عبر وسائل الاعلام وبشكل مباشر أحيانا، ثم انتقل الاحتجاج والرفض الى أروقة المحكمة. ومن هنا جاء المنعرج. لماذا الاصرار على ابعاد اللجنة عن عملية التقصي؟ ولماذا تمت مقاضاة هذه اللجنة دون سواها رغم أنّ ما يعاب على لجنة تقصّي الحقائق حول قضايا الرشوة والفساد، هو نفس ما يعاب على لجنة الاصلاح السياسي ولجنة استقصاء الحقائق حول الأحداث الأخيرة. ما يمكننا أن نلاحظه في هذا الصدد، هو أنه من مصلحة القضاة أن يكون القضاء دون سواه هو من يقوم بأعمال التقصي والحجز دفاعا عن مبدإ سلطة القضاء واستقلاليته، لذلك فإنّ القضاة أصبحوا من هذا المنطلق طرفا في المعركة ضدّ اللجنة وهو ما تمّ التعبير عنه عندما اعتبروا أن دور اللجنة يناقض دور القضاء. أمّا بعض المحامين، خاصة القائمين بالدعوى ضدّ أعضاء اللجنة، فإنه يمكننا أن نعثر داخل مفاصل الدوافع، على ماهو مبدئي وهو الدفاع عن استقلالية القضاء. فالمحامون ركن أساسي من أركان المرفق العدلي وهم مساعدو قضاء ونجد أيضا ماهو اقتصادي، إذ أنّ تجميع اللجنة لأكثر من خمسة آلاف ملف من ملفات الفساد والرشوة، وهي من الملفات الكبرى وموضوعها المليارات، فإن هذه الملفات إذا دخلت أروقة المحاكم فهي لا شك سوف تمثل «سوقا» هامة لتشغيل عدد هام من المحامين. ولا بدّ من التأكيد هنا أنّ هذا المبرّر لا يمكن أن يكون وراء مواقف المحاماة المعروفة تاريخيا بالوقوف دائما الى صف القضايا العادلة، لكن ذلك لا ينفي وجود بعض المحامين الذين يدفعهم «حقهم» من إحداث «سوق» للعمل، خاصة أنّ عددا من المحامين كانوا محرومين من العديد من القضايا التي كانت تعطى فقط للتجمعيين من زملائهم وخاصة قضايا الادارات والشركات العمومية. وأمام هذه الاشكاليات القائمة، وهي أساسا تنازع الاختصاص بين لجنة تقصّي الحقائق حول قضايا الرشوة والفساد والمؤسسة القضائية، فإنه من الاشكالي أيضا أن يعطى مصير اللجنة للحكم عليها أمام القضاء. في هذا السياق وبهذا المعنى، وأعتقد أنه كان من الأجدر أن يحال الأمر على مجلس لتنازع الاختصاص مثلما هو الشأن في القضاء الاداري، إذن من غير المنطقي أن تكون جهة ما هي الخصم وهي الحكم. ومن الناحية الثانية ولتفادي التأويل بأنه من بين دوافع إحالة اللجنة على العطالة، إن لم يكن على العدم، هي إحداث «سوق» قضائية، فإنه من الأسلم أن تمرّ النيابة في مثل هذه القضايا بالذات على مكاتب الفرع الجهوي للمحامين. أما الحديث عن حق اللجنة في العمل أو الحديث عن عدم شرعيتها فهي مسألة أخرى يمكن تناولها في مجال آخر.