لم يغب في ملاحظاتهم هذه، قيامهم باطلاع الرئيسين المذكورين، «بانحراف هيكلية الحزب» كذلك، إذ وقع لفت نظرهما عديد المرات، إلا أن إدارة هذا الحزب أصبحت عبئا ثقيلا، سواء بضخامتها وكثرة موظفيها وأعوانها، أو بكلفتها الباهظة، اضافة الى انغلاقها على نفسها، وعزوف القوى الحيّة من الشباب والجامعيين والمثقفين عنها، وتعرضها فوق ذلك للانتقادات اللاذعة من قبل بعض الأحزاب، وبعض مكوّنات المجتمع المدني، وإتهام هذه الادارة بالتغوّل واستنزاف أموال المجموعة الوطنية، وهدر الموارد البشرية، لخدمة جهاز السلطة التنفيذية دون غيرها، واتهام عموم المنخرطين في الحزب، بتزييف الانتخابات وتغييب إرادة الشعب، عن اختيار ممثليه، سواء على رأس الدولة أو في سائر الهياكل الدستورية وفي مقدمتها البرلمان. وتمّ اطلاعهما كذلك على أنّ الهياكل المحدثة ضمن هذه الهيكلية قد فشلت في تحقيق التكوين والتأهيل للمنضوين في الحزب، وأصبحت مجرّد مناسبة يلتقي فيها منخرطوه للاستماع الى بسطة أو تدخل أو عرض، يلقيه أحد الأساتذة أو من يتحمّلون مسؤولية في إدارته المركزية، إحياء لاحدى ذكريات الكفاح الوطني أو تحليل موقف معيّن، اتخذته الحكومة في مسألة ما، أو لشرح أحد خطب بورقيبة أو بن علي بعده، بقصد تمجيدهما والتنويه بهما، ويشفع اللقاء عادة ببعض التساؤلات والاستفسارات الشكلية والمرتجلة، وهي غالبا ما تُملي إملاء حسب مقتضيات الظرف. ويشار كذلك الى أنّ لقاءات هذه الهياكل غير منتظمة وأنّ حضورها مقصور على المنخرطين، وأمّا تغطيتها الاعلامية فقد كانت سطحية وروتينيّة، وتسودها اللغة الخشبية وفاقدة لأيّ حرارة نضالية، وأصبحت كلّ من جريدتي «العمل» و«لكسيون» أو «الحرية» و«الرونوفو» لاحقا، قابعين في الأكشاك لا يقبل عليهما أحد بما في ذلك اطارات الحزب أنفسهم. أما النقطة الأخيرة التي أثيرت من قبل هذه المجموعة فتتعلق ب«نمطية الخطاب السياسي»، الذي كان يتسم في غالب الأحيان بالرتابة والتكرار والاجترار، وضعف المضمون الفكري والثقافي، وسقوطه في الارتجال والابتذال، ممّا بعث على العزوف عنه والزهد فيه، الى حدّ أنّ منظمي الاجتماعات العامة في الادارة المركزية، كانوا يعانون الأمرّين، في احضار الجمهور وأحيانا يلجؤون الى تلامذة المعاهد الثانوية، وعمال المصانع القريبة وبعض العاملين في الفضاءات التجارية، لجلبهم الى قاعات الاجتماع، ولو على حساب التفريط في دروسهم وأعمالهم، ولاسيّما عند اشراف بعض أعضاء الديوان السياسي على هذه الاجتماعات. ولم ينس أصحاب هذه الانتقادات، الاشارة الى غياب الموقف الحرّ والمستقل للحزب، وغياب المبادرة أصلا، حتى لمجرد تنظيم مسيرة تضامنية مع الفلسطينيين أو اللبنانيين أو غيرهم من البلدان الشقيقة، التي كانت تتعرض لأشكال من العدوان الصهيوني والغربي على امتداد العقود الماضية وإلى اليوم وكانت بعض أحزاب المعارضة على العكس من ذلك سبّاقة لاتخاذ المواقف المساندة للقضايا العربية العادلة، وغرق الحزب الحاكم في مسلسل برقيات التأييد والولاء، كما غرق في اجتياح صناديق الاقتراع بمناسبة الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية، لتزييف النتائج لصالح النظامين المستبدّين. كما غرقت النخبة السياسية والثقافية ذات المطامع الانتهازية بدورها في إعداد البيانات والمحاضرات وحتى الكتب مدفوعة الأجر سلفا، مدحا لبورقيبة وبن علي وإطرائهما، والاشادة المضخّمة بسياستهما، رغم ما كانت عليه من تناقضات وأزمات. ويبدو أنّ هذه المؤاخذات الجريئة التي عبّرت عنها اليوم ولأول مرة هذه الشخصيات الوطنية المخضرمة، قد أدخلت عليهم شعورا كبيرا بالارتياح، وبالحسرة في ذات الوقت. أولا: لأنهم أراحوا ضميرهم بمصارحة بورقيبة وبن علي في الإبّان، بتدهور الحزب وانزلاقه نحو الهاوية، وثانيا: لأنه خاب أملهم وذهبت مصارحتهم للدكتاتوريين المذكورين أدراج الرياح، بل وقع إمعان كل منهما في توظيف هذا الحزب العريق، الذي كان وراء تحقيق الاستقلال، لقضاء مآرب حاكمي قرطاج وحاشيتهما، حتى انهار تماما. وهناك اليوم شبه إجماع بأن الذي انهار فعلا هو بورقيبة وبن علي بعده، فانهار معهما هذا الصرح العتيد لأنهما جرّداه من روحه الوطنية والقومية، ومن مبادئه التقدمية التي أرساها مؤسسه الزعيم عبد العزيز الثعالبي، التي كانت العمود الفقري لاجلاء الاستعمار الفرنسي عن بلادنا سنة 1956. ولكن من نكد الدنيا أن يهوى هذا الصرح العتيد، على يد المستبدّين المذكورين، اللذين حوّلا وجهته التاريخية والنضالية وجعلا منه مطية للعبث بحقوق الشعب، وتمييع هويته العربية الاسلاميّة، بل جعلا منه سندا للفرانكفونية العنصرية، والتبّعية الغربية وتأبيد البقاء في كرسي الحكم، وآلية قامعة لأي محاولة جادّة لاخراج البلاد من بوتقة الفساد والاستعباد ومن خندق الفقر والبطالة حتى قال الدكتور الحبيب الجنحاني، الذي أدان سياسة هذين الحاكمين وما جنياه على هذا الحزب، في تحليل سياسي مطوّل تحت عنوان: «الثورة وسقوط الأقنعة» نشر بجريدة «الشروق» التونسية يومي 12 و13 جانفي 2011، جاء فيه بالخصوص: «ليس من المبالغة أن يصبح الحزب الحاكم في ظلّ النظامين السابقين عبئا على الدولة والوطن، ولا غرابة في ذلك فقد أصبح جهازا من أجهزة المخابرات أو يكاد، فلم يسهم المسؤولون في قيادته في قمع الحرّيات العامة فحسب. بل تحوّل الكثيرون منهم إلى حلفاء للمافيا الجديدة».