٭ طبرق (الشروق) من موفدتنا الخاصة فاطمة بن ضو ونيس الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى ترحهب بكم.. رغم أن هذه التسمية الزئبقية التي أصر معمر القذافي على إلصاقها بليبيا لمدة عشرات السنين لا تزال عالقة على المدخل الشرقي لبلد عمر المختار.. لا شيء في هذه المناطق الموجودة على الحدود المصرية يحيل على «جماهيرية معمّر» لا الأعلام.. لا الكتابات الحائطية.. ولا حتى الألوان في مناطق يحاول ساكنوها محو كل ما هو أخضر من حياتهم كأنهم بذلك يمحون سنوات من الصمت والقهر. ليبيا المحرّرة بلد داخل البلد.. سلطة داخل السلطة.. أمل داخل اليأس والموت والخراب.. بعد أكثر من 40 سنة من إطلاق معمر لكذبته الكبرى التي أطلق عليها اسم «الحكم بيد الشعب».. ها هو الشعب الليبي يصحّح مسار التاريخ.. ويحوّل الوهم السياسي إلى حقيقة.. حقيقة ليبيا الحرة. الساعة تشير إلى حوالي التاسعة صباحا.. بعد تخطي الأمواج البشرية من «المعذبين في الأرض».. العالقين في معبر السلوم إثرفرارهم من جحيم ليبيا إلى جحيم الانتظار تجد نفسك وجها لوجه مع مواطن ليبي اضطرته الظروف الحالية إلى أن يقوم بدور حرس الحدود إلى أجل غير مسمى.. الدخول إلى ليبيا.. هذه الأيام يشبه الانتحار.. هذا ما قاله كل من قابلتهم في رحلتي الطويلة من القاهرة إلى الاسكندرية ثم مرسى مطروح وصولا إلى السلوم.. تحذيرات ملحّة تجعلك أحيانا تفقد أعصابك ودعوات للعودة من حيث أتيت «تبرمجك» لا شعوريا على الخوف.. ومع الأنباء حول مصور «الجزيرة» الذي قتلته كتائب القذافي وأخبار الصحافيين المفقودين تنتابك رغما عنك رهبة قاتلة.. وأنت تضع أقدامك على التراب الليبي.. وكأنك فقدت في لحظة إمكانية الرجوع إلى الوراء.. نظر إليّ الحارس الليبي الواقف عند البوابة مليا قبل أن يرحب بي بانقليزية سليمة ويطلب مني جواز سفري. كنت شبه متنكرة.. قبعة ونظارات شمسية.. وكأنني بذلك أحمي نفسي من خوفي.. وكأنني أنا لست أنا.. «آه.. الأخت من تونس.. مرحبا.. أنت بنت عمنا.. خليها تعدّي يا ابني».. قال الحارس وهو يعيدلي جواز سفري مع ابتسامة عريضة وينظر إلى زميله الواقف على مقربة منه. وأنت تتفحص المتطوعين غير العاملين في المعبر يبدو لك المنظر للوهلة الأولى غير مألوف.. في ثياب مدنية.. أسلحة.. ووجوه تعبة ومتوقدة النشاط في نفس الوقت. في هذه الظروف الاستثنائية يتوقف الدخول إلى ليبيا من البوابة الشرقية على التقدير الشخصي للساهرين على حماية المكان. بعد انقطاع الاتصال مع مركز البيانات بطرابلس لم يعد بإمكان «حُماة ليبيا» سوى النظر من جنسياتهم ثم أخذ القرار. من حسن حظهم لم تكن أعداد الوافدين كبيرة على عكس أعداد المغادرين.. فقط عدد قليل متكوّن إما من صحفيين أو من ناشطين أو من ليبيين عائدين إلى منازلهم. طبرق المدينة الشامخة الطريق من الحدود الليبية المصرية إلى مدينة طبرق شبه صحراوي.. عدا بعض القرى الصغيرة التي تعترضك بين فينة وأخرى والحواجز الأمنية المتعددة حيث يتثبّث الثوار من هويات المارين. بعد ساعة ونصف حطت بي سيارة الأجرة الرحال في طبرق.. هذه المدينة الساحلية الجميلة.. أول مدينة ليبية استنشقت نسائم الحرية.. «طبرق تحررت بعد ثلاثة أيام... ... ثلاثة أيام من المواجهات بين المواطنين وكتيبة تابعة للقذافي تدعى كتيبة عمر المختار... آلاف من المواطنين نزلوا الى الشوارع والساحات مسلحين ببنادق الصيد لمواجهة عناصر الكتيبة المدججين بالرشاشات. وبعد سقوط شهداء وقتل البعض من عناصر الكتيبة تمكّن الثوار من السيطرة على المدينة... خصوصا بعد انضمام قائد لواء المنطقة اليهم وهرب قتلة القذافي تاركين وراءهم مدينة محررة لا تحتكم الا الى أبنائها»... هكذا أكد لي السيد عبد السلام العبيدي، المنسق البحري في الميناء النفطي بطبرق مؤكدا على أهمية عنصر البعد الجغرافي لهذه المدينة عن طرابلس. في ميدان الملك ادريس وسط طبرق حيث يوجد مكتب المجلس الانتقالي المحلي يتجمع مئات الليبيين كل يوم وتتعالى النقاشات السياسية في مشهد مألوف لقادم من تونس. غير بعيد يمكنك المرور أمام المقر القديم لشرطة المدينة الذي تحوّل الى جدران محروقة شأن كل المقرات المرتبطة بنظام القذافي. عند سماعي لصوت وابل من الرصاص ابتسم عبد السلام وقال لي: «يجب أن تتعوّدي على هذا الصوت... هنا كل الناس مسلحون لذلك تراهم يطلقون الرصاص حتى من باب المزاح... لكن عموما الأمن مستتب في طبرق والثوار يمسكون بزمام المدينة ويديرون كل شؤونها... بقيادة المجلس الانتقالي المحلي من تصريف أمور الميناء التجاري والميناء النفطي وكذلك فرض الأمن وحماية المنشآت... ونحن على اتصال دائم مع المجلس الانتقالي في بنغازي بقيادة مصطفى عبد الجليل...». ساعات طويلة قضّيتها في المشي بشوارع طبرق المحرّرة للتعرّف أكثر على هذه المدينة المتشحة بأعلام النصر حيث الشعارات المناهضة لمعمر القذافي ونظامه مكتوبة في كل مكان حتى على واجهات البيوت. استوقفني مشهد مرور أطفال رافعين لافتات تمجّد الثورة. قال لي عبد السلام «أرأيت هذه الطفلة... أحد أفراد عائلتها كان من المعارضين للنظام... وقد شنقه القذافي في ساحة عامة في أحد أيام رمضان». تأملت هؤلاء الاطفال وفهمت أكثر لمحة الفخر التي تراها في عيون كل سكان طبرق. بعد عشرات السنين من الحكم لم يتمكن النظام الليبي سوى من خلق أجيال من الغاضبين... أجيال الثورة... الهوامش 1) مدرسة البنات بطبرق والتي كانت تسمّى مدرسة «الصقر الوحيد» وهي كنية معمر القذافي أطلق عليها إسم «الشهيد علي حسن الجابر»، مصور قناة «الجزيرة» الذي قتل من طرف القذافي. 2) بعد تحرير المدينة تمّ حرق مقر اللجان الشعبية وهدم مجسّم الكتاب الأخضر الموجود أمامه ثم خصّص المكان لقناة «الجزيرة». 3) مساء أول أمس خرجت مسيرة تضمّ سوريين هتفوا بمساندتهم لثورة ليبيا حاملين أعلام التحرير والاعلام السورية خصوصا بعد تفشي أنباء تقول ان احدى الطائرات التي أسقطها الثوار كان بها طيار سوري. 4) صور الملك إدريس السنوسي أصبحت معلقة في عديد الأماكن لكن كل من سألناهم أكدوا أنهم لا ينادون برجوع الملكية في ليبيا رغم ما قد يظنّه البعض.