تونس (الشروق): في الجزء الثاني من الحوار الذي خصّ به «الشروق» اعتبر السيد رضا شهاب المكي (حركة قوى تونس الحرّة) أن مراجعة المنوال التنموي هو الضامن لحماية الثورة التونسية وذلك عبر دولة اجتماعية ترتكز على قرارات متخذة على المستوى الجهوي. وقال انه لا النظام الرئاسي ولا النظام البرلماني بمعنييهما الغربي قادران على النجاح اليوم في تونس بل نظام ديمقراطي يرتكز على المبادرة الاقتصادية الحرّة، وتحدّث المكي من جهة أخرى عن مشهد «اليسار» اليوم في تونس وعن رؤية «قوى تونس الحرّة» للمرحلة القادمة في تونس على مختلف الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. أي السبل ترونها كفيلة لتحقيق أهداف الثورة التونسية على الصعيدين السياسي والاقتصادي وأيضا لمنع الالتفاف عليها؟ التجربة التونسية حسب رأيي تستند الى الجميع والى كافة المواقع النيّرة في التاريخ.. لكن اليوم يغلب على الساحة واقع إعلامي معيّن وخاصة واقع بشري مسوّق.. في هذا الواقع تقع محاولة تغليب رؤى ليبرالية واضحة تقف في مستوى ما تراه بعض الاعلانات العالمية لحقوق الانسان أو التجارب الانتقالية الديمقراطية في بلاد الغرب. فعندما تنظر مثلا في تركيبات اللجان التي تعدّ القانون الانتخابي هي الوجوه التي وقع الاعلان عنها في المشهد الاعلامي.. فكل منهم ظهر على الأقل 4 أو5 مرات في المشهد الاعلامي ليتشكّل في ما بعد داخل هذه اللجان ولتقوى بالتوازي مع ذلك الرابطة الليبرالية ونكون أمام الأمر المقضي ليقع إقصاء بقية أنواع التعبير الأخرى.. وهذا حسب رأيي أحد أنواع الالتفاف على الثورة في بعديها الاجتماعي والسياسي. فالشعب التونسي، أو على الأقل المهمّشون فيه طالبوا بالتشغيل وطالبوا بحفظ الكرامة البشرية. لكن هذه «الذات البشرية» اصطدمت في الماضي الى النظام سياسي وبمنوال تنموي وجب تغييرهما معا.. وكان أن سقط «الرأس» فقط بالنسبة الى النظام السياسي في حين بقي المنوال التنموي في حاجة الى إعادة بناء شريطة أن يكون مرفوقا بإعادة بناء الدولة الجديدة على نمط قد لا يشبه بالضرورة نمط البلاد الغربية. والفكر البشري حرّ ومبدع في تخيّله وتصوّره للأنماط المختلفة ولا يجب أن يكون سجينا لرؤية أو لتجربة معينة.. إذ بإمكاننا بناء تجربتنا التونسية الخاصة بنا مثلا النظام الديمقراطي ذو المبادرة الخاصة داخل دولة اجتماعية. والدولة تكون اجتماعية إذا لم تهيمن على القطاع الخاص ولم تقزمه ولم تفتكّ منه مبادرته في الفعل الاقتصادي وفي الفعل الاجتماعي.. لكن الدولة أيضا مطالبة بعدم التخلي عن طابعها الاجتماعي الأساسي الذي تضمن من ورائه المرافق الأساسية لمواطنيها وبالتالي لا يقع الفصل بين السياسي والاجتماعي وهذا الأمر لا يستقيم إلا بتمثيلية حقيقية في مستوى الجهات والبلدات وبانعكاس ذلك في السلطة المركزية. وهذا الأمر في اعتقادي أساسي وقد يعكسه نظام اقتراع معيّن. وفي هذا الصدد يمكن الحديث مثلا عن الاقتراع الفردي وهو نظام يسمح لكل جهة بأن تختار الشخص أو الفرد الذي تثق فيه بقطع النظر إن كان منتميا الى صورة سياسية أو قائمة انتخابية أو حزبية معيّنة.. إذ يكفي أن يحظى بثقة مواطني جهته ويتمتع بقدر كاف من النزاهة و«النظافة» وقادرا على المبادرة والتفكير واتخاذ القرارات الحاسمة وعلى متابعة تنفيذها. أيّهما أقرب لتحقيق هذه الأهداف، هل هو النظام البرلماني أم النظام الرئاسي؟ لا أعتقد أن نظاما رئاسيا أو برلمانيا على الشاكلة الغربية سيكون قادرا على حلّ «أزمة» البلاد التونسية.. فنحن في حاجة الى نظام جديد، يمزج بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي ولا يترك المبادرة للإنتاج والتسويق للخواص بمعنى الاستثمار المالي فقط بل يفسح المجال رحبا للجمعيات التنموية الأهلية المليئة بالكفاءات العلمية وبأصحاب الكفاءة التي تنشط في إطار مجالات معينة (مثلا المرأة البيئة الصناعات التقليدية البحث العلمي.. وغيرها من مجالات الانتاج والإنماء الاجتماعي). وفي الآن نفسه تكون هذه التشكّلات مواطن شغل لأعداد كبيرة من الشباب وقادرة على التأثير مباشرة في سياسة الدولة وفي تشريعاتها وقادرة على أن تكون رقيبا هامّا الى جانب الرقيب القضائي. فالنظام الديمقراطي الذي يضمن المبادرة الحرّة ويتشكّل داخل الدولة الاجتماعية هو نظام متعدّد الاتجاهات والتشكّلات ولا يقتصر على السّلط القديمة الموزعة تقليديا بين تنفيذية وتشريعية وقضائية.. وهذا النظام (الديمقراطي) سيكون فيه الكثير من التداخل والشراكة بين المركز والجهات إعطاء دور هام جدا للجهات لتتصوّر كل منها منوالها التنموي الخاص بها ويكتفي المركز بضبط التوجهات الكبرى.. فالتنوع الاجتماعي والمدني والتنموي وفي تقسيم التشريع بين الجهات والمركز (مع إعطاء الأولوية للجهات) قادر على أن يكون صمّام أمان أمام الضربات والهزّات التي لا تخلق إلا التهميش والتفقير. والمنوال التنموي الملائم في اعتقادي هو المتشابك والمتعدد والمتداخل بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والعقائدي والديني.. إذ ليس هناك تناحر وتضارب بين هذه الأشياء إذ يكفي أن يكون المقتدر والخبير وتكون الكفاءة في المكان المناسب وأنا دوما صديق فكرة، اعتقد أنها صحيحة وهي «العلم يعلم دائما لفائدة الحقيقة» والثورة يجب ان تستعمل علمها وكفاءتها وخبرتها لمحاربة الغوغاء والديماغوجية. كيف ترون «اليسار» اليوم في تونس وأي دور له في المشهد السياسي بعد الثورة؟ اليسار كلمة أو صفة شاملة وجامعة لكل من يعتبرون أنفسهم تقدميين في معنى التقدم العلمي والتاريخي أي منسجمين مع حركة التطور العلمي والتاريخي... فاليسار تشكل على هذا النحو، رغم انه من الناحية الشكلية تشكيل في مجلس الثورة الفرنسي من خلال الجلوس يمينا او يسارا داخل قاعة المجلس... لكن في ما بعد تم ارجاعه الى مسألة ان تكون تقدميا أي مع حركة التاريخ وحركة العلم أو تكون رجعيا فحصلت القطيعة المرجعية بين اليسار واليمين. وبالنسبة الى اليسار التونسي لم يخرج عن هذا التصنيف.. لكن هناك يسار تقدمي ويسار قومي ويسار بعثي ويسار اسلامي.. فكلمة يسار أصبحت مفصلية في الموقف من المجتمع ومن العلم ومن التاريخ، بين علاقتنا بالماضي والحاضر.. فإما أن لا نستند تماما الى الماضي بتعلة اليسار او نستند قليلا الى ما هو نيّر ومفيد من الماضي بتعلة اليسار لكن دوما من أجل الغد الافضل والمتطور والجديد وإما ان نرى الغد كما رأيناه بالامس مماثلا وهنا تصبح مرجعية أخرى غير المرجعية اليسارية.. فاليسار لا يقتصر فقط على المرجعيات الماركسية وإن كانت هذه الاخيرة تمثل الأغلبية في شكل مفهوم «اليسار»... فكل الماركسيين يسارا ولكن ليس كل اليسار ماركسيين... والآن اليسار في تونس يظهرون في أشكال كثيرة ومختلفة في المشهد السياسي بتونس.. فعدد الأحزاب في تونس تجاوز اليوم 40 حزبا ولابد من القول ان هذه الكثرة في الأحزاب يجب ان تساند البرنامج الذي أتت من أجله هذه الثورة وليس البرامج التي تأسست من أجلها هذه الأحزاب. وحركة «قوى تونس الحرّة» بماذا ستساهم في تحقيق أهداف الثورة وكيف ستتعامل مع بقية التشكيلات السياسية؟ قوى تونس الحرة التي أنتمي اليها تنفصل عن هذا المناخ ولا نرى إشكالا في ان تكون هذه القوى (تونس الحرة) ضمن هيكل من هياكل الدولة القادمة شريطة ان تكون هذه الهياكل موزعة لفائدة الجهات والبلدات وتنعكس على مستوى المركز وتسير نحو لامركزية واضحة وقد تقترب من الفيدرالية، وهو أمر مهم وأن يكون داخل هذه الهياكل (المجالس) الفئات الاجتماعية التي لها دورها في تحديث المجتمع التونسي وفي اعادة قيمة العلم التي افتقدناها جميعا وفي إعادة المبادرة. فقوى تونس الحرة لا تنشغل بأن تكون ممثلة أم لا بل شديدة الانشغال والخوف من ان يكون المهمّشون غائبون عن هذه المجالس وعن هذه الهياكل والسلطات داخل الدولة. واعتقد ان هناك اليوم في تونس نزعة لإقصائهم من المشاريع الحالية لأني لا أرى فيها (النزعة) محاصصة اجتماعية بل محاصصة سياسية بين الأحزاب وتكتل من اجل عدد أكبر من المنخرطين. فالمواطن عندهم ناخب والمواطن عندنا مشارك والأمر مختلف تماما. فقوى تونس الحرة لا تفرح بوجودها داخل هذه المجالس بل قد تخاف ولكنها قد تكون شديدة السعادة اذا كان للمهمشين وللشباب وللمرأة أدوار ويكون لأي حزب الحق في أن يقول ان للمهمّش أو للمرأة او للشباب مكان في حزبي... فمثلنا الشعبي في هذا المجال واضح «ما يندبلك كان ظفرك»... وحتى في ديننا لنا مثل يجسّم هذا التوجه «كل شاه معلقة من كراعها» فقوى تونس الحرّة لن تكون في حزب مع أي كان من التشكيلات السياسية الاخرى، ولا يهمّنا إن ترشحنا لهذه المجالس أم لا ولن نأخذ مكان أحد... وكل من اختار طريقا عليه تحمل تبعات اختياره. ما نرفضه مع اليسار باعتبارنا قوى تقدمية (يساريين بشكل ما) هو خوض صراع ايديولوجي معهم وهو ما نعتبره مضيعة للوقت.. والصراعات الحقيقية والأساسية قادمة وستبرز حتما من خلال المشاريع التنموية لبناء الدولة ولبناء تشريعها... سندافع عن آراء كثيرة أهمّها إلغاء الامتيازات اذ نعتقد انه يوم تحل الكفاءة والمبادرة ويوم يكون للعلم موقعه في المجتمع ويوم تُلغى الامتيازات من التشريع التونسي الجديد سيتضاءل عدد المتنافسين على السلطة لأنهم يتنافسون في الحقيقة على امتيازات السلطة (أجور ومنح وسيارات وبنزين وأشياء أخرى)وليس على السلطة في حد ذاتها... فهذا ليس من روح ثورتنا بل من روح الغرب الليبرالي. فالمهم هو الاجتماع على طاولة واحدة لكن دون تباغض او تناحر قياسا بالعائلة مثلا... فالاشكال دائما توجده النخب وتصنعه صنعا وتستميت في الدفاع عنه وتريد دوما خلق العراقيل... وهو ما يسبب صدامات أهلية تستدعي تجريم كل من تسبب فيها.