الشكل الثالث معيار حالات الفساد، لما كان الفساد الاداري هو ما يشوب الادارة من خلل واضطراب غير مشروع فأن الفساد هنا يتمثل بالعديد من المجالات مثل انتشار الرشوة والمحسوبية، الاتجار بالوظيفة العامة, الاختلاس من المال العام، الابتزاز الوظيفي، سوء استعمال السلطة, التسيب والاهمال الوظيفي, واللامبالاة في العمل، التفريط بالمصلحة العامة, عدم الحفاظ على الممتلكات العامة, اهدار الوقت، شيوع النفاق الوظيفي, علاقات الريبة والشك وعدم الثقة بين الرؤساء والمرؤوسين, تصنع العمل أمام الرؤساء, المحاباة في العمل والمكافاءات بدون حق قانوني وأخلاقي،(هناك موظفين فوق القانون أولا يطبق عليهم القانون مثلا)غياب المسؤولية والالتزام الذاتي، الصراع على القوة, وسوء ممارسة مفهوم الوظيفة العامة . وتعميقا لتحليل ظاهرة الفساد الاداري بالاعتماد على ما سبق سنحاول تقديم الأسباب العامة لها، حيث تعددت الآراء وتباينت وجهات نظر الكتّاب والباحثين في تحديدهم للأسباب الكامنة وراء ظاهرة الفساد الاداري وممارسته من قبل العاملين في الأجهزة الحكومية والخاصة, وسواء كان ذلك بأسلوب فردي أوجماعي نظمي، ويمكن حصر تلك الأسباب بواحد أوأكثر من الأسباب الآتية: . أسباب حضرية (نسبة للبيئة الحضرية)، فهناك من يرى بأن أسباب الفساد الاداري ما هي الا أسباب حضرية فالتفسير الحضري يشير الى وجود فجوة بين القيم الحضرية لمجتمع وبين قواعد العمل الرسمية المعتمدة من قبل الأجهزة الادارية، وهنا لا بد من اثارة التساؤل الآتي : هل أن هذا الكلام ينطبق على الدول المتقدمة والدول النامية على حد سواء ؟ والاجابة بطبيعة الحال كلا لان صحة هذا التفسير يمكن أن تنطبق على الدول النامية أكثر من انطباقها على الدول المتقدمة أو الأكثر تقدما مع تحفظنا على من يؤكد هنا الطبيعة الايجابية لظواهر الفساد الاداري في الدول النامية وما يحمله من جهل وتعميم بخصوصيات النظم الحضرية القيمية في مجتمعات الدول النامية ولأن التغير الذي جاء به أنصار هذا الرأي وفي مقدمتهم الوظيفيون أو المعدلون لا يمكن أن يؤدي الى تقليص الفجوة بصورة دقيقة ومنتظمة بين المجتمع والجهاز الاداري ، كما أن سلبياته المتوقعة تفوق ما يمكن أن يحققه من ايجابيات علما بأن تطبع النظم المقتبسة من الدول الأكثر تقدما بالأساليب الفنية والعلمية المعتادة لواقع الدول النامية يعتبر أكثر ضمانا لصالحها من ايكال ذلك الى الفساد الاداري . السبب الثاني هيكلي، يؤكد أنصار التفسير الهيكلي على أن أسباب الفساد الاداري ما هو إلا نتيجة لوجود هياكل قديمة لأجهزة الدولة لا تتوازن أو تتناسب مع قيم وطموحات الأفراد, ولا تستجيب لمطالبهم واحتياجاتهم, وهذا من شأنه أن يخلق حاله من عدم التوافق بين الجهاز الاداري المعني وأولئك الأفراد , مما يجعلهم يلجئون الى اعتماد مسالك أخرى تنطوي تحت مفهوم الفساد لتجاوز محدوديات الهياكل القديمة وتحقيق مصالح ذاتية على حساب أهداف ومصالح الجهاز الاداري المعني . ومن الملاحظ أن مثل هذه الحالات موجود ومعمول بها في كثير من الدول النامية والدول المتقدمة ولكنها بعيدة عن مآزق الأحكام القيمية التي وقع فيها أنصار التغير الحضري الرسمي يرجع ظاهرة الفساد الاداري الى وجود فجوة بين القيم الحضرية للمجتمع من جهة وبين قيم وقواعد العمل الرسمية المعتمدة في أجهزة الدولة الادارية من جهة أخرى . السبب الثالث قيمي اذ يعتبر هذا التفسير من أكثر التفسيرات التي يعتمد عليها علم اجتماع التنمية حيث يرى أنصار التفسير القيمي بأن الفساد الاداري ما هو إلا نتيجة لانهيار النظام القيمي للأفراد والذي يتمثل بالقيم والتقاليد والعادات الاجتماعية الموروثة واستبدالها بأطر قيمية منحرفة أو بأطر قيمية هشة بعيدة عن القيم المعتمدة في المجتمع . ومن الجدير بالذكر بالاشارة هنا بأن حالات الفساد الاداري التي تمارس في ظل السبب أعلاه يغلب عليها طابع النسبية نتيجة لتباين النظم القيمية المعتمدة في المجتمعات من جهة وتباين نظم وقواعد العمل الرسمية المعتمدة في أجهزتها الادارية من جهة أخرى. فالسلوك السوي أو المنحرف هو نتاج عملية تتفاعل فيها العوامل الحيوية الصادرة من داخل الفرد نفسه، والمؤثرات الاجتماعية كمصادر خارجية، فمن داخله غريزة وانفعال لذة التملك وغريزة الاستعانة بالغير بسبب الشعور بالعجز والحاجة الى المكانة والتقدير الاجتماعي والنجاح والأمن والحب... فمنها دوافع فطرية وأخرى مكتسبة وبعضها مشروع وأخرى غير مشروعة. يتبع بقلم: جعفر حسين (باحث تونسي في علم الاجتماع)