بقلم: وليد العربي مساعد في القانون بجامعة قرطاج عاب عليّ من انتقدني وانتقد مقالي...، عدم الاستثناء وعدم التمييز بين القضاة الشرفاء النزهاء والقضاة التابعين للنظام السابق. وقالوا إن القضاة الشرفاء أغلبية ضحت بالغالي والنفيس «لإيصال الحقوق لأصحابها»، أما القضاة «الفاسدون من ضعاف النفوس» فهم قلة قليلة. وسمّوا أسلوبي «تعميما» وفي التعميم سطحية، وأبدوا استغرابا لصدور هذا التحليل السطحي عن جامعي وقد يكون في كلامهم بعض الوجاهة ولكن هذه الوجاهة تبدو فقط للوهلة الأولى. لقد قالوا كل ذلك مع إنه لم ترد في مقالي الأول أية إشارة إلى أن كل القضاة أوأغلبهم أو قلة منهم من المرتشين أو الفاسدين أو من غير الشرفاء والنزهاء، فالمسألة لا تتعلق بالشرف والنزاهة ولا بنظافة الآيدي، بل المسألة أعمق من ذلك. أنا تحديدا جامعي باحث وغاية البحث العلمي مهما كان ميدانه، اكتشاف القوانين التي تحكم الظواهر طبقا لمبدئي السببية والحتمية. ومفاد هذين المبدأين هو أن تكرر نفس الأسباب في نفس الظروف يؤدي حتما إلى نفس النتائج غير أن مبدأ الحتمية لم يعد يحظى باجماع الابستيمولوجيين منذ بداية القرن العشرين وذالك نظرا لإمكانية وجود استثناءات لتلك القوانين. ولكنّ هذه الإستثناءات تبقى مجرّد خرق للقوانين وللقواعد، تؤكدها ولا تنفيها. والقانون الذي يحكم القضاء في تونس هو الآتي: كلما طرح ملف سياسي أو ذو صبغة سياسية على القضاة العدليين سواء كانوا أفرادا بصفتهم تلك أو كانوا محكمة، إلا وحكم القضاة المعنيون بالملف في الاتجاه الذي يريده الماسك بالسلطة، رئيس دولة، حزب حاكم، جهاز أمن، رأي عام... وصمت الباقون. وذلك دون أن نغفل إمكانية وجود حالات استثنائية كنت ذكرت بعضها في مقالي الأوّل. وأقصد بالسياسة الظاهرة المتعلقة بالحكم داخل المجتمع كالارتقاء إلى السلطة أو التداول عليها أو الاحتجاج عليها أو الصراع عليها... وأنا مع ذلك لم أعمم في مقالي الأول لأنني تساءلت عن وقائع وحالات وقضايا معينة وإن كان ذلك على سبيل الذكر، فأنا لم أتعرض مثلا إلى قضية الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وإلى قضية اليخت الذي سرق من فرنسا وإلى غيرها من القضايا التي يعلمها القاصي والداني. ويبقى السؤال مطروحا: هل أن القضاة الخاضعين أغلبية أم أقلية؟ قال منتقد ومقالي إنهم أقلية. ولكن يبدو لي أن المسألة ليست مسألة عددية أو كمية أو إحصائية بل هي مسألة نوعية. لقد استنبط الأنثرو بو لوجيون في خمسينات القرن العشرين، مفهوما هو اليوم محل نقد، وهو مفهوم «الشخصية القاعدية». والشخصية القاعدية هي مجموع الصفات والخصائص والسمات التي تطبع الأفراد المنتمين لمجتمع معين والتي تحددها عوامل عديدة منها الجغرافي والتاريخي والديني والسوسيولوجي والقانوني والسياسي... قلت إن هذا المفهوم محل نقد ولكن يمكن اعتماده في بعض الميادين التطبيقية المهنية كالقضاء والتعليم والمحاماة وعدالة التنفيذ والطب... فشخصيات القاضي والأستاذ والطالب والمحامي وعدل التنفيذ والطبيب تختلف فيما بينها. وشخصية القاضي العدلي مطبوعة بسمتين متناقضتين أو على الأقل متفارقتين وهما من جهة سمة التعالي والتكبر وقد أكد ذلك بعض من انتقدني حين قال: «سنظل مترفعين شامخين صامدين كالفارس المغوار...» ومن جهة ثانية سمة القابلية للخضوع للسلطة لا بتلقي الأوامر والتعليمات منها فحسب بل وأيضا بملازمة الصمت. وقد أكد ذلك السيد صلاح الشيحاوي في معرض ردوده على مقالي لما قال بأنه لا وجه للمقارنة بين المحامي والقاضي لأن هذا الأخير لا يمكنه الإضراب. والحال أنني لم أدع القضاة إلى الإضراب غداة ما حصل لزميلتهم السيدة كلثوم كنّو يوم 19 ديسمبر 2010. وفي إجابته دليل واضح على قلة خبرة (بعض) القضاة بالأعمال الاحتجاجية فالإضراب هو آخر درجة من درجات الاحتجاج يسبقه إصدار للبيانات والاعتصام بمقرات العمل خارج أوقات العمل...، وفي تلك الحالة بالذات كان بإمكان القضاة مثلا مقاطعة تلك الجلسة العامة الانتخابية لجمعية القضاة التي جرت يوم 19 ديسمبر 2010. وقلة خبرة (بعض) القضاة بالأعمال الاحتجاجية دليل على استعداد وقابلية (بعضهم) للخضوع وللصمت. وقد يكون الأمر مفهوما بحكم القوانين والقواعد المنظمة للقضاء وما تفرضه على القاضي من واجب تحفظ وإمكانية نقله... هذا أمر مفهوم لكنه غير مبرّر لأن هذه الواجبات والضغوطات مسلطة أيضا على الموظفين والذين كنا نراهم يضربون من حين لآخر...! يقول السيد صلاح الشيحاوي بخصوص حالة السيدة كلثوم كنّو التي ذكرتها أعلاه بأنها لم تكن معنية بحضور الجلسة العامة الانتخابية لجمعية القضاة لأنها كانت تنتمي للهيئة الشرعية التي انقلب عليها القضاة في 2005. والذين انقلبوا على تلك الهيئة هم إذا قضاة وليسوا أساتذة أو محامين. وهم أغلبية لأن الدعوة لعقد جلسة عامة خارقة للعادة لا تصحّ إلا متى صدرت عن أغلبية أعضاء الجمعية. قال إذن إن السيدة كلثوم كنّو لم تكن معنية بجلسة 19 ديسمبر 2010، وأنا لم يبلغ إلى علمي أنه تمّ عزل هذه القاضية أو أنها قدمت استقالتها. فبصفتها قاضية كان يحق لها حضور تلك الجلسة. قلت آنفا إن السيد صلاح الشيحاوي هو الوحيد الذي أجابني في الأصل وسأرد فيما يلي على النقطتين اللتين أثارهما. تتعلق النقطة الأولى بالإنابة العدلية وقال إن هذه المؤسسة لم يبدعها فقه القضاء بل نصّ على إمكان اللجوء إليها القانون. وأنا لم أدّع أن فقه القضاء هو من ابتدع مؤسسة الإنابة العدلية بل قلت إن «قضاة التحقيق كانوا في أغلب الأحيان يفوّضون صلاحيات التحقيق للشرطة العدلية بمقتضى الإنابة العدلية» وبالتالي فإنني لم أتعرض إلى المصدر القانوني أو الفقه القضائي لهذه المؤسسة. ثم قال السيد صلاح الشيحاوي بأن اللجوء إلى الإنابة العدلية ليس أمرا واجبا بل إن ما فرضه هو الواقع وذلك بحكم العدد المرتفع للملفات التي يباشرها قضاة التحقيق وكذلك بحكم قصر آجال الاحتفاظ. ولم أفهم بالضبط إن كانت الإنابة العدلية أمرا غير واجب أو أنها إجراء فرضه الواقع، فهل هي مفروضة أم غير مفروضة؟ يستخلص من الفصل 57 فقرة أولى من مجلة الإجراءات الجزائية أن الإنابة العدلية هي مجرد إمكانية «أمكن» ولكنها إمكانية مشروطة بأن يتعذر على قاضي التحقيق القيام بأعمال التحقيق بنفسه واللجوء بالتالي إليها يبقى أمرا استثنائيا لا يمكن أن يفرضه واقع ارتفاع عدد الملفات التي يباشرها قاضي التحقيق... ثم إن الاحتفاظ وقصر آجاله الذي ختم به قاضينا الجليل تعليله، هو أيضا إجراء استثنائي. أما النقطة الثانية فتتعلق بمسألة المنطق الإجرائي وبالثورة الفرنسية. لقد استغرب السيد صلاح الشيحاوي صدور دعوة من أستاذ متخصص في القانون للخروج عن القانون وقال إنه لأول مرّة يرى ذلك. وهذا أمر يسعدني لأنني لست من المقلّدين ولا من النقليين بل من المبدعين أو على الأقل أحاول - بكل تواضع- أن أكون كذلك. ولكن للأسف سبقني إلى هذا التفكير عدد كبير من القانونيين، إذ توجد مدرسة بأكملها تدعو إلى التمرد وإلى الثورة على القانون الوضعي إن كان ظالما وجائرا وهذه المدرسة هي مدرسة القانون الطبيعي بكل تعبيراتها و التي ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان ومزال لها إلى اليوم بعض المنادين على غرار الفيلسوف الفرنسي ميشال فيلاي. كما أنّ مؤسس المدرسة التقعيدية وأحد كبار منظري مدرسة القانون الوضعي الدولتي والتي تعتمد كمقولة أساسية أنه لا قانون خارج القانون الوضعي للدولة، وهو هانس كلسن قد ترك في نهاية المطاف، الباب مفتوحا أمام المواطن لنقد القانون الوضعي وللخروج عنه والتمرد وحتى الثورة عليه، إن كان ظالما. وأنا لست من الملتزمين بتعليمات مدارس القانون الطبيعي ولا من المتقيدين بضوابط مدارس القانون الوضعي بل إنني أحاول إيجاد أسس بديلة للقانون... ولكنني حين قلت إن الثورة في أحد وجوهها، هي تحرّر ولو إلى حين، من المنطق الإجرائي والشكلي، لم أفعل ذلك بصفتي مختصا في القانون بل بصفتي مواطن. ويقول السيد صلاح الشيحاوي إن المنطق الإجرائي هو نتاج الفكر الغربي الحديث وتحديدا الفكر القانوني الفرنسي وإن ذلك قد جاء لحماية حقوق المتقاضين. هذا كله صحيح ولكن يجب إصلاح خطأ وحيد وهو أن من أسّس القواعد الإجرائية وكرّسها هم الإنقليز وليسوا الفرنسيين وذلك منذ «الشرعة الكبرى» لسنة 1215 ومختلف إعلانات الحقوق التي صدرت في القرن السابع عشر. وللفرنسيين أيضا دور هام في تأسيس المسائل الإجرائية ولكنهم لم يكونوا الأوائل في هذه العملية كما يدعي قاضينا الجليل أما بخصوص محاكم الثورة الفرنسية التي انتصبت لمقاضاة أعداء الثورة انطلاق من سنة 1792 فإنها لم ترتكب مجرد تجاوزات أو انتهاكات بل إنها ارتكبت فظاعات و سفكت و أراقت الدماء وذلك بمرور عدد كبير من الفرنسيين على المقصلة. ولكن إن كان لهذه المحاكم فضل ففضلها يكمن في أنها خلّصت الفرنسيين حتى من قادة الثورة مثل دونتون و مرا و روبسبيار وبالتالي جنبتهم إمكانه تأليه بعض البشر... أما فيما يتعلق بأن أبسط الضمانات و منها مبدأ التقاضي على درجتين لم تكن مضمونة أمامها فذلك يرجع أولا إلى منطق الثورة وثانيا إلى فكر روسو الذي يعتبر أن الإرادة العامة النابعة عن الشعب معصومة و لا يمكن أن تخطئ فجاءت تركيبة هذه المحاكم ممثلة في جزء منها للشعب الفرنسي. وأخيرا حول ما قاله السيد صلاح الشيحاوي بأن العديد من الدارسين يعتبرون أن الثورة الفرنسية مثالا سيئا لثورات الشعوب وأن ثورتي اسبانيا والبرتغال نموذج يحتذى في الانتقال السلمي للديمقراطية، فإنني أقول بأنه إذا كان يقصد بالدارسين المؤرخين وعلماء الاجتماع والأنتروبولوجيا والقانونيين وعلماء السياسة، فإن هذه استحالة أن يكونوا قد قالوا ذلك بصفتهم دارسين. فدور الباحث لا يكمن في الاستحسان أو الاستقباح ولا في إصدار الأحكام القيمية بل يتمثل دوره في دراسة الظواهر بصفة موضوعية. أما الموقف الذي عبر عنه قاضينا المحترم ونسبه للدارسين فهو لا يعدو أن يكون سوى موقفا أخلاقيا أو سياسيا أو دينيا... ومع ذلك فإن هيقل ومارسيل قوشي وهشام جعيط مثلا، يقدمون الثورة الفرنسية كحدث جلّل في تاريخ فرنسا أولا وفي تاريخ الإنسانية ثانيا. وأختم بالقول بأن الدعوة التي وجهها القاضي حامد المزوغي بأن ينوه الشعب التونسي بالقضاة، هي دعوة مرفوضة شكلا وأصلا لأن الشعب لا ينوه بأحد ولا يقف إجلالا لأحد سواء كانوا قضاة أو أساتذة أو غيرهم... هذه بعض الردود عن المقالات التي انتقدتني وانتقدت مقالي وأرجو أن يكون مقالي هذا قد قرئ على ظاهره، دون بحث في نيتي ولا في خلفياتي وبعيدا عن تشنج الانتماءات التي أنا منها متحرّر ولا يحرجني بأن يقال مثلا إن سوء فقه القضاء يرجع إلى سوء فقه الشراح، مع أن كتابات ودروس هؤلاء تشهد بأنهم ما انفكوا ينقدون فقه القضاء ولكن هيهات...!