جمع بين الاخراج التلفزي والعزف الموسيقي والتعاطي الحرفي مع الانتاج الدرامي... نجيب بلهادي قليل الكلام وكثير العمل... رجل يرفض الخنوع والاستكانة... يقطع نهائيا مع كل أساليب المناورة... لا يتسامح مع كل من يشكك في ما تتوفر عليه التلفزة التونسية من كفاءات وقع تهميشها طيلة العهد البائد... غيور على قطاع الاخراج التلفزي صريح الى حد الجرح.... يعشق عمله الى حد العبادة. في رصيده محطات ابداعية هامة جمع فيها بين الاخراج والانتاج والابتكار فكان الاجماع حول قيمته وكفاءته كأفضل مخرج للمنوعات على امتداد مسيرة التلفزة التونسية ونلمس ذلك جليّا في «مجالس الطرب» و«أدوار 1» و«أدوار 2»... في هذا اللقاء معه تحدث نجيب بلهادي ل «الشروق» بصراحة فيها كثير من الجرأة والواقعية والايمان بأن مستقبل التلفزة التونسية سيكون أكثر اشراقا وألقا بعد ثورة 14 جانفي. بلهجة فيها من الواقعي الشيء الكثير تحدث المخرج نجيب بلهادي عن ثورة 14 جانفي مؤكدا احساسه بالنخوة والاعتزاز، فالشعب التونسي انتفض ليكتب للتاريخ صفحة ناصعة من النضال السلمي لأجل الحرية واستعادة الكرامة... لكن قالها محدثي بمرارة ما يحزّ في نفسي الآن أن هذه الثورة التي تعد أنموذجا في تاريخ الثورات في العالم فالتونسي الذي أعلن الثورة على كل مظاهر الفساد والاحتياج والبطالة نجده اليوم وهذا أمر مؤسف ومؤلم يعمل على هدم وتخريب المشاريع التي توفر له كرامة العمل والانتاج... نحن اليوم في حاجة ماسة وأكيدة للتعاون والتكافل للخروج نهائيا من هذا النفق الى فضاء أرحب نستنشق فيه عبير الديمقراطية والحرية في مناخ آمن. صمت نجيب بلهادي لحظات ليكمل: ما يؤلمني هو عمليات النهب والتخريب والاعتداءات المجانية على المواطنين... وهذا ما أرى فيه قوى جذب الى الوراء حتى تحيد الثورة عن أهدافها... المطالب كثيرة ومتنوعة ولا حدود لها... مكاسب الثورة ليست كعكة يتهافت عليها لاقتسامها... الثورة عملية بناء جديدة لتونس حرة شامخة أصيلة مترفعة عن كل فساد وخراب وهدم وحرق. لا للاقصاء ولا تفرقة بين الأجيال وقال نجيب بلهادي: نعم الشباب يمثل نسبة هامة في المجتمع التونسي لكن لا مجال للتفرقة بين الاجيال تحت شعار التطوّر فكل الاجيال سيجمعها هم واحد هو المحافظة على مبادئ الثورة والابتعاد بها عن كل محاولات تفريغها من مضامينها وأهدافها التي من أجلها قامت، وأعطي هنا مثلا: مهما كانت الرؤى والأفكار داخل الأسرة الواحدة فلا مجال لاقصاء وتهميش دور الأب والأم... وهذا ينطبق أيضا على الثورة. التلفزة التونسية هذا المطلوب منها وبيّن المخرج التلفزي نجيب بلهادي جوابا عن سؤال حول المطلوب من التلفزة التونسية: أن الاعلام التونسي مازال في حاجة ماسة لمزيد من التأطير والتوجيه في تعاطيه مع الأحداث المتسارعة التي تشهدها بلادنا... ومثل هذا الامر ينطبق على التلفزة التونسية المطالبة اليوم بعدم الانخراط كليا في هذا الهيجان الذي يعيشه الشارع التونسي نعم مع المتابعة الدقيقة وتقديم الحقيقة. وأكّد أنه لا مجال للتلفزة التونسية بعد الثورة لتجاهل دورها في مجتمع يحتاج الى المزيد من التأطير والتثقيف والترفيه وتهذيب ذوقه... على التلفزة التونسية أن تكون مرآة الثورة وهي مطالبة بأن تقدمها ثورة عظيمة في مستوى طموحات وتطلعات الشعب التونسي. أخطاء تلفزية وكشف نجيب بلهادي في حديثه عن التلفزة التونسية أنه حان الوقت حتى تتخلص (أي التلفزة التونسية) من مشكل عدم توفر الامكانات حتى يمكن تقديم انتاجات جيدة... على التلفزة اليوم أن تنتفض وعليها أن توفر الامكانات. وقال محدثي في حماس ظاهر: كفانا أخطاء وكفانا تزلّفا وتمسحا على الأعتاب من المسؤولين السابقين الذين كانوا يبحثون دائما عن ارتفاع نسبة المشاهدة على حساب الجودة وعلى حساب الأمن الثقافي للمجتمع. فعلى امتداد 15 سنة والكلام لنجيب بلهادي تقدم التلفزة نسخا مشوهة من برامج في تلفزات عالمية. تقصد «كاكتوس»: لا، أقصد بدرجة أولى المسؤولين عن التلفزة الذين استعملوا كاكتوس لأمرين. ارضاء العائلة الحاكمة و«البزنس»... وكمثال على ذلك قالها بغضب ظاهر أتدري أن برنامج «ستاد 7» تكاليف الحلقة الواحدة 90 ألف دينار... وهو أغلى من حلقة لمسلسل تلفزي... وأن الصور والتقنيات توفرها التلفزة التونسية. مسلسل «مكتوب» خسرت فيه التلفزة التونسية ما قيمته 10ملايين دينار في الاشهار التي ذهبت كلها الى شركة «كاكتوس» ثم ان المسلسل بلغت كلفته ملياران و800 مليون ثم ما هي رسالة هذا المسلسل: إنها رسالة مدمّرة للأخلاق وكل مظاهر السلوك الحميدة... فبطل هذه السلسلة يأتي بكل الموبقات في تعدّ صارخ على أخلاق المجتمع التونسي بكل خصوصياته. اقصاء الكفاءات في الاخراج صمت المخرج نجيب بلهادي... أطلق زفرة، وبعد أن فرك يديه: قال جوابا عن سؤال: لماذا وصلت التلفزة الى هذا الحدّ...؟ السبب الرئيسي عملية الاقصاء لكل الكفاءات في الاخراج التلفزي التي مارسها أحد الرؤساء المديرين العامين للتلفزة التونسية. نعم... تم اقصاء وتهميش جيل من المخرجين: نجيب بلهادي والحبيب الجمني، نعيم بن رحومة، عبد المجيد الجلولي، شهاب الغربي، خلف االله الخلصي، المنصف البلدي... لقد مارس هذا الرئيس المدير العام كل الضغوطات وصلاحياته لاقصاء هذا الجيل من المخرجين تمهيدا للالتجاء الى الشركات الخاصة وبالتالي الى «البزنس». وأذكر انه تم اختياري من قبل ادارة التلفزة لإخراج سيتكوم «دار الخلاعة» لكن بعد اجتماع مع كاتب السيناريو حاتم بلحاج اتضح ان شخصية نجيب بلهادي كمخرج لن تسمح له (أي حاتم بلحاج) من ممارسة خطواته الاولى في الاخراج، فتقرر ابعادي لما رفضت الامر وتم تعويضي بمساعد في الاخراج ومساعد في الانتاج وهذا لم يحدث البتة في اي تلفزة من تلفزات العالم تكليف مساعدين بإخراج سلسلة تمثيلية تلفزيونية. وخلاصة القول ان المسؤولين المتعاقبين على التلفزة التونسية قبل ثورة 14 جانفي كان همهم الوحيد كسب رضا العائلة المالكة ومحيطها على حساب المشاهد التونسي الذي هجر التلفزة التونسية الى قنوات أخرى. اقصاء متعمد وأكد المخرج نجيب بلهادي ان ما تعرض له من اقصاء كان متعمّدا ضاربا بذلك مثلا: «ففي 1998 قدم للتلفزة التونسية مشروع شريط تلفزي» لقي الاستحسان وتم قبوله للتصوير لكن سرعان ما تم التراجع بحجة عدم توفر الامكانيات المالية لذلك وأعدت عرضه أكثر من مرة لكن عدم توفر الامكانيات المالية هي سبب توقف الانجاز وفي المقابل (حلّوا البيبان لكاكتوس) فخلال سنة 2010 وحسب الوثائق، فإن إدارة التلفزة التونسية تضخ لشركة كاكتوس ما قيمته 340 مليونا كل ثلاثة أشهر... بل هناك من المقربين يتحصل على مقابل مالي عند بث برنامجه وينال نفس المبلغ عند اعادة بث نفس البرنامج. من المعقول والكلام لنجيب بلهادي ان يتحصل تقني على 47 مليونا مقابل اخراج منوعة وهل من المنطق تكليف مخرج متقاعد بإخراج منوعة أسبوعية مقابل 118 مليونا في السنة، وأهل الاختصاص مهمشون.. بل ان نجيب بلهادي كان عرضة للتشويه والتشكيك في امكانياته الابداعية وان طلباته المالية مشطة. لكن وبالوثائق أنجزت حلقات من أروع المنوعات (أدوار 1) و(أدوار 2) ومجالس الطرب بأثمان معقولة ومنطقية 26 ألف دينار الساعة الواحدة في حين ان هناك من يحصل على 400 ألف دينار للحصة الواحدة. «حديث الناس» غيّروا وجهتها وكشف نجيب بلهادي ل«الشروق» لأول مرة أنه قدم مشروع حصة ثقافية أسبوعية في تقديم لوليد التليلي عنوانها «حديث الناس» وشرعنا في اعدادها ثم تصويرها لكن جاءت التعليمات بالالغاء وتحويل وجهتها الى «كاكتوس» التي عوضتها ب«كلام الناس» في تقديم لنوفل الورتاني... هذه المنوعة سأعود اليها اذا وافقت الادارة على ذلك، قالها نجيب بلهادي في تحد ظاهر. حاجيات أكيدة بدأ على وجه نجيب بلهادي التفاؤل وهو يتحدث عن مستقبل التلفزة التونسية بعد ثورة 14 جانفي بالقول لقد كانت لنا لقاءات مع الرئيس المدير العام الحالي لمؤسسة التلفزة التونسية الذي كان محاورا حصيفا وصاحب نظرة استشرافية للمستقبل على اعتبار ان التلفزة هي صناعة ولكن صناعة في حاجة ماسة الى الامكانيات المادية وهي ايضا (اي التلفزة) مدرسة لكل المبدعين لذا فلا مجال بعد اليوم للتساهل ولا مجال ل(رزق البيليك) والتساهل... وأرى انه لابد ان تستعيد التلفزة وجهها الذي لابد ان تكون عليه وأن يستعيد المخرجون الأكفاء مكانهم في الانتاج من خلال اعادة الهيكلة والاهتمام بكل التفاصيل التي من شأنها ان تساهم في الانتاج الجيد والمقنع والممتع واضفاء طابع الحرفية في كل مصالحها خاصة في مجال النقل الذي يعطل السير الطبيعي للعملية الانتاجية فكم من مخرج يؤجل التصوير او يلغيه لعدم توفر النقل... ثم ان التلفزة التونسية تعاني اليوم من نقص في المخرجين والمساعدين وكاتبات الاخراج فلابد من تغطية هذا النقص بكفاءات تضمن الاضافة وتقطع نهائيا مع التواكل والتسيب وذلك بتوفير حوافز تشجيع المخرج وكل العاملين في هذه المؤسسة على مزيد العمل الجديد الذي يجمع بين الامتاع والاقناع. لا للإحباط وقال نجيب بلهادي جوابا عن سؤال حول ما إذا انتابه في يوم ما الاحباط قال: الاحساس بالاحباط لا وجود له في قاموس حياتي فأنا أحارب كل أصحاب النوايا السيئة بالعمل الجدي ولا شيء، غير العمل... وأنا على استعداد تام للتضحية مقابل الاحترام والايمان بقدراتي وقدرات كل زملائي في المهنة... التلفزة التونسية صنعت أسماء في السينما التونسية كنجيب عياد وسلمى بكار وسامي الفهري الذي تحول الى مخرج بسبب التلفزة التونسية وما أؤكد عليه ان أبناء التلفزة الحقيقيين قادمون لأجل وجه جدير بهذا الفضاء الاعلامي العريق وأشار أن له عديد المشاريع التي تنتظر الانجاز والمطلوب توفير حتى نصف ما كانت تحصل عليه (كاكتوس)... وسترون انتاجات ذات مواصفات عالمية. يوم للثورة وختم نجيب بلهادي هذا اللقاء المثير معه بتقديم اقتراح الى ادارة التلفزة يتمثل في تخصيص يوم للثورة مرة كل أسبوع يتم فيه تقديم الانتاجات التونسية الصرفة من منوعات وبرامج وأغنيات ومسلسلات ومسرحيات كما انه يدعو الى فرض قانون يجبر القنوات الاذاعية والتلفزية على تخصيص نسبة 50٪ سنويا لبث المنتوج التونسي في كل المجالات الابداعية.