وزير الداخلية: تونس في مواجهة مُباشرة مع التحدّيات والتهديدات والمخاطر السيبرنية    نقابة الصيدليات: إيقاف التكفّل لا يشمل الأمراض المزمنة    تحويل جزئي لحركة المرور على مستوى مستشفي الحروق البليغة ببن عروس    عاجل: آخر سفن الأسطول المغاربي لكسر الحصار تغادر ميناء قمرت    بعد يومين من المعاناة : وفاة المرأة التي أضرمت النار بجسدها داخل معهد ثانوي بغار الدماء    سورة تُقرأ بعد صلاة الفجر لها ثواب قراءة القرآن كله 10 مرات    105 حريقاً في يوم واحد: الحماية المدنية تكشف حصيلة تدخلاتها خلال 24 ساعة    عاجل : نقابة شركة الشحن والترصيف بميناء رادس تطلق ناقوس خطر    مدينة سوسة تحتضن الصالون الدولي لصناعة النسيج في تونس من 16 الى 18 اكتوبر المقبل    20 مؤسسة تونسية تشارك في بعثة الأعمال إلى المملكة العربية السعودية..    عاجل/ تأجيل إضراب موزّعي الأدوية الى هذا الموعد..    أولمبيك سيدي بوزيد يتعاقد مع الحارس وسيم الغزّي واللاعب علي المشراوي    جندوبة الرياضية تتعاقد مع اللاعب بلال العوني    الكاف: حجز كميّات من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك    عاجل/ بينهم نساء وأطفال: إحباط عملية "حرقة" وإنقاذ 26 مجتازا تونسيا    قابس: تخرج الدفعة الأولى من المهندسين بالمعهد العالي للاعلامية والملتيميديا    جريدة الزمن التونسي    القصرين: مشروع نموذجي للتحكم في مياه السيلان لمجابهة تحديات التغيرات المناخية والشح المائي    صدمة في القلعة الكبرى: لدغة ''وشواشة'' تُدخل شابًا قسم الكلى    انهاء مهام هذا المسؤول بوزارة التربية.. #خبر_عاجل    عاجل/ الجامعة التونسية لكرة القدم تحذر وتتوعد بتتبع هؤلاء..    الرابطة الأولى: إياد بالوافي يمدد عقده مع النادي الصفاقسي    عاجل: الإدارة الوطنية للتحكيم تجمّد حسام بولعراس مرة أخرى...علاش؟    الرابطة الأولى: تشكيلة مستقبل قابس في مواجهة النادي البنزرتي    الرابطة الأولى: تشكيلة النادي البنزرتي في مواجهة مستقبل قابس    المقرونة: أصلها عربي و لا إيطالي؟ اكتشف الحكاية    عاجل..انقطاع الإنترنت والاتصالات وتحذير من توقف الخدمة الصحية في غزة..    ارتفاع الحرارة ليس السبب...النفزاوي يكشف أسرار نقص الدواجن في الأسواق    وزارة التربية: زيادة عدد المدارس الابتدائية الخاصة    سفينة "لايف سابورت" الإيطالية تنضم لأسطول الصمود نحو غزة كمراقب وداعم طبي    اختفاء سباح روسي في مضيق : تفاصيل مؤلمة    الدينار التونسي يتراجع أمام الأورو إلى مستوى 3.4    أكثر من 100 شهيد في مجازر ارتكبها الاحتلال في قطاع غزة    وزير التجهيز والإسكان يؤكد على تفعيل الدور الرقابي للتفقدية العامة بالوزارة    مقارنة بالسنة الفارطة: زيادة ب 37 مدرسة خاصة في تونس    طقس اليوم: سماء قليلة السحب    عاجل: طلبة بكالوريا 2025 ادخلوا على تطبيق ''مساري'' لتأكيد التسجيل الجامعي..وهذا رابط التطبيقة    القيروان: النيابة العمومية تأذن بتشريح جثة العرّاف ''سحتوت'' بعد وفاته الغامضة    البحر اليوم شديد الاضطراب في الشمال.. وياخذ وضعية خطيرة ببقية السواحل    الإحتلال يقصف مستشفى الرنتيسي للأطفال بغزة    أسباب غير متوقعة وراء نقص حالات الزواج عند التونسيين    الكورة اليوم ما تفلتهاش... هذا برنامج المقابلات للرابطة الأولى    بنزرت: إصابات خفيفة في انقلاب حافلة عمّال بغزالة    أمل جديد لمرضى القلب.. تشخيص مبكر ينقذ الحياة في دقائق    جريدة الزمن التونسي    لمدة 48 ساعة فقط.. جيش الاحتلال يعلن عن ممر آمن لإخلاء سكان غزة جنوبا    مولود ثقافي جديد .. «صالون الطاهر شريعة للثقافة والفنون» ملتقى المثقفين والمبدعين    وفاة روبرت ريدفورد: رحيل أيقونة السينما الأميركية عن 89 عامًا    مشاركة تونسية لافتة في الدورة 13 من المهرجان الثقافي الدولي للمالوف بقسنطينة    فيلمان تونسيان ضمن مسابقات مهرجان الجونة السينمائي    لأوّل مرة: هند صبري تتحدّث عن والدتها    راغب علامة عن زوجته: لم تحسن اختياري    انطلاق المخطط الوطني للتكوين حول الجلطة الدماغية    "غراء عظمي".. ابتكار جديد لعلاج الكسور في 3 دقائق..    كلمات تحمي ولادك في طريق المدرسة.. دعاء بسيط وأثره كبير    أولا وأخيرا ..أول عرس في حياتي    أبراج باش يضرب معاها الحظ بعد نص سبتمبر 2025... إنت منهم؟    مع الشروق : الحقد السياسيّ الأعمى ووطنية الدّراويش    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مرايا: «لقد فهمتُكم»
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

للسياسة رجالاتها الأفذاذ الذين طبعوا التاريخ بجلل الاعمال فتركوا عظيم الاثر وحسن الذكر. وليس المجال هنا لبناء جدول تفاضلي لفرسان «فن الممكن» وإنما يتجه الغرض نحو ذكر لا يزيد عن الاخبار وإن كان باطن لا يخلو من حكمة الاعتبار (ابن خلدون) ذلك أنه قد وُجد من بين حملة الصولجان من جمع بين حصافة توجيه السفن والركبان وفصاحة المنطق والبيان. ولسائل أن يسأل عن جدوى الربط بين السياسة والفصاحة والحال ان السياسة في جوهرها طلب للنجاعة بينما لا تتعدى البلاغة منزلة العرضي من فن الخطابة؟ وإذ نجيب عن السؤال بسؤال يروم الكشف عن سر حرص قلة من الساسة الذين ذكرنا، على تحصين قدر من النبالة والرفعة وهم يتحركون في كواليس التآمر والحسبة، وعلى انتقاء بليغ اللفظ والابتعاد قدر الامكان على شائع الكلام وارضاء أهواء العوام؟
لعله من بين مفاتيح لغز «إحكام السلطان» تجنب الارتجال تقريرا ورأيا وتفضيل ركوب الصعب على امتطاء السهل وذلك بالمحافظة على الحد الأدنى من القيم والاخلاق أثناء ممارسة الفعل السياسي دون ان يعني ذلك الاستغناء عن مطالعة مؤلف «الأيادي الوسخة» لجون بول سارترل.
ومن هؤلاء الساسة الذين نقصد وعلى سبيل الذكر لا الحصر يمكن ان نشير الى من هو من العرب القدامى قد اقترن اسمه بقيمة العدل «الفاروق» واسترسل ذكره ببليغ القول : «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا» ومن العرب المحدثين يبرز عبد الناصر بقوله : «ارفع رأسك يا أخي...» كدلالة على تأصل الكرامة وتجذر روح التحدي لدى بني «أنف الناقة» أما من العجم فيعتبر الفرنسي شارل ديغول صاحب قولة : «لقد فهمتكم» أصلح النماذج التي تلبي غرض المقالة.
فبتاريخ 13 ماي 1958 وعلى اثر تمرّد تزعّمه غلاة الاستعماريين من العسكريين المتشبثين ببقاء الجزائر «أرضا فرنسية»، وفي وقت تصعدت فيه المقاومة الوطنية في أكثر المعارك شراسة «معركة الجزائر العاصمة»، وأصبحت فرنسا على وشك الدخول في حرب أهلية بين دعاة الجزائر الفرنسية وأنصار موجة الاستقلال، جاء الجنرال ديغول الى الجزائر وخاطب الجمهور الحاضر من الأوروبيين والجزائريين بقولته الشهيرة : «لقد فهمتكم» اJe vous ai comprisب التي أوّلها كل طرف حسب ميولاته، ورأى فيها قبولا من الجنرال لمطالبه هذا بتأكيد البقاء وذاك بترتيب الخروج. وقد تطورت الأحداث لاحقا باقتناع الجنرال بحدود الحل العسكري واتجاهه نحو الحل السياسي بتنظيم الاستفتاء الذي أقر استقلال الجزائر.
لهذه الاحداث والمواقف التي قد تكون معالمها تشوّشت بمفعول غبار الارشيف والتي قد نطالعها اليوم دون انتباه لفرادتها، دلالة راهنة مفادها ان ديغول رغم تحدّره من وسط عسكري ورغم التأثير الكبير للعسكريين من أمثال الجنرالين : ماسو Massu وصالان Salan في سياسة فرنسا الجزائزية، فإن ذلك لم يثنه عن طبخ الامر على نار هادئة والاستماع لمختلف الأطراف والاصوات ليتمكن في نهاية المطاف من صياغة الخطاب المختزل الثاقب الذي نجح في تفادي الكارثة وقد جنّبه صاحبه مفردات الاستفزاز والتحقير وصيغ التبجّح واستعراض العضلات مفضلا الاتجاه به نحو الجميع ونحن المستقبل.
وعلى سبيل المقارنة لا غير نطرح السؤال التالي : أين تصريح البيت الابيض الامريكي ب: «لقد أخطأت في حسابات غزو العراق...» من بلاغة قولة ديغول؟ قول يفتح أبواب الامل هنا. وهناك تصريح لم يتجاوز سيل البديهيات التي قيلت وتكررت قبل وأثناء وبعد الغزو الأمريكي للعراق! ولا يفتح على التفكير في تجاوز حرفيّ لفداحة المأزق! ولا يفعل سوى التستر على أشد الجرائم فظاعة عن خطيئة عظمى في حق الانسانية وليس عن مجرد خطأ.
إن ديغول هو من أنقذ فرنسا في ثلاث مناسبات سنة 1940 بتزعمه مقاومة الاحتلال النازي وسنة 1958 بمعالجة المسألة الجزائرية وسنة 1968 بإطفاء نيران ثورة «ماي 68» وهو الذي أسس الجمهورية الخامسة والذي أقرّ استفتاء استقلال الجزائر وجيبوتي، وهو كذلك صاحب موقف «الخط الثالث» المعارض لهيمنة العملاقين ومؤسس النزعة الديغولية القائمة على صيانة التباين الفرنسي مع السياسة الأمريكية والذي عبّر عنه سنة 1966 بإدانة الوجود الأمريكي في فيتنام وهو نفس النهج الذي يواصل أتباعه من حكام فرنسا الحاليين بمعارضتهم لغزو العراق.
ولأن ديغول ينتمي الى طينة الساسة المتخلّقين فقد كانت لديه شجاعة القبول بالانسحاب من الجزائر وبعدها من الحياة السياسية عندما تحقق من أنه لم يعد يملك الحلول التي ترضي ضميره ومبادئه. إذ نجده يُسرّ لأحد ثقاته (جاك فوكار J. Foccart) أنه سيتخلى «لأنه لا يستطيع الامساك بأمور شعب رغم أنفه...» و»أنه من المستحيل أن يأخذ الحاكم مكان الشعب...» و»أنه يرفض أن تُبلى فرنسا بحكومة فيشي ثانية...» (Nouvel Observateur / أفريل 1998 ص14) فشتّان والحال هذه، بين السياسة بالاخلاق وسياسة بالابتزاز بين لغة الفروسية والشعر التي يواصلها دي فيلبان ولغو المزايدة الانتخابية «من أجل حفنة من الدولارات» اPour une poignée de Dollarsب.
أما نحن العرب فمن يتفهمنا كما يجب؟ وهل فهمنا أعداءنا كما يجب؟ لا أملك الا الرجاء في أن نكون قد فهمناهم وأننا قد توصلنا الى استيعاب مثلنا القائل بأن المرء لا يلدغ من حجر الاستعمار مرتين، أما وقد حصل ما لم يكن في الحسبان فعلينا ان نتفادى لغدتنا الثالثة في السودان وسوريا.
لقد فهمنا وإن كان الثمن الذي دفعناه باهظا، أنه ما حكّ جلدك مثل ظفرك، وانه علينا ان نتصالح مع أنفسنا قبل ان يدخلوا بين لحمنا وعظمنا وقبل أن نعقد الصفقات التي بها يستدرجوننا الواحد تلو الآخر ليأخذوننا ثمرة ويلقوا بنا نواة في سلة الارهاب الدكتاتورية والمحاكم الطائرة والاستثنائية والعسكرية والدولية وليعيدوا رسكلتنا في محتشدات «الديمقراطية المعلّّبة في معدات الصفيح» والتي سنجبر على ابتلاعها بعد فوات آجال الاستهلاك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.