أقدمت صباح أمس 3 تلميذات يدرسن بمختلف المعاهد الثانوية بالكريب على محاولة الانتحار بعد أن احتسين مادة الجافال وأدوية سامة لأسباب لا تزال غامضة وقد تم نقلهن إلى المستشفى المحلي بالكريب حيث تلقين الاسعافات الأولية قبل إحالتهن إلى المستشفى الجهوي بسليانة. ولعلّ ظاهرة الانتحار هذه والتي تفشت بشكل كبير خاصة بعد انتحار «البوعزيزي» الذي كان شرارة للثورة الشعبية في تونس لإسقاط النظام البائد ثم انتشرت كالنار في الهشيم في بقية الدول العربية جعلتنا نتساءل عن أسباب ومسبّبات هذه العمليات الاجرامية التي سادت عديد المناطق التونسية لتبلغ 26 حالة محاولة انتحار بمستشفى الاصابات والحروق البليغة ببن عروس. ولأن الانتحار أصبح بمثابة «الموضة» أو الوسيلة الأولى للتعبير والتبليغ «الشروق» بحثت في هذه الظاهرة من خلال وجهة نظر علم الاجتماع وعلم النفس وكذلك الدين الاسلامي. حيث أكد السيد منصف وناس (أستاذ جامعي وباحث في جامعة تونس) أن مختلف المدارس النفسية والاجتماعية تجمع على أن ظاهرة الانتحار هي ظاهرة غير سوية وتدل على حالة من عدم التوازن عند الشخص المنتحر ولكن مثل هذه القراءة العلمية اليوم هي بحاجة إلى مواجهة جراء تغيير المعطيات والظروف. فانتشار ظاهرة الانتحار بدءا من شهر ديسمبر 2010 إلى حدّ الآن هي دليل على عمق الأزمة في صلب المجتمع التونسي. فهناك شريحة من المجتمع صارت تعتبر أن الانتحار هو شكل من أشكال التعبير عن الرفض لما هو سائد ونوع من اليأس من إمكانية تغيير الأوضاع فصار الانتحار حالة قصوى من الاحتجاج ومن الشعور باليأس وانسداد الآفاق، وهذا خطير بالنسبة إلى المجتمع التونسي الذي يعوّل تماما على موارده البشرية في ظلّ غياب الموارد الطبيعية. يأس وضعف فالانتحار خاصة في أوساط الشباب يؤكد مرة أخرى الحالة النفسية اليائسة وعدم توفر هياكل قادرة على التأطير وعلى الإحاطة بالشباب والاستماع إلى مشاغله وإعطائه نوعا من الثقة في النفس وقدرة على مواجهة الحالات الصعبة وخاصة انسداد آفاق الشغل. وأضاف السيد منصف ونّاس أن استمرار هذه الظاهرة في التزايد يؤكد بأنه لم يتم الاستثمار بما فيه الكفاية في عملية الاحاطة بالشباب وتوجيه طاقاته وإكسابه ثقة في النفس ورأس مال من الأمل والتفاؤل. ولهذا يجدر بالمجتمع التونسي بكل هياكله أن يدعم الاستثمار في الاحاطة بالشباب ومساعدته ومعاضدته على تجاوز الصعوبات الراهنة خاصة في مجال الاستثمار. فحينما يجد الشباب نفسه وحيدا وحينما لا يحيط به المجتمع وحينما يغيب الأمل في حياته فإنه من الطبيعي أن يقدم على هذه الحالة «حالة الانتحار» فهي بلا شك ظاهرة مرفوضة اجتماعيا وقانونيا ولكنها تصبح حالة طبيعة إذا ما انسدّت كل هذه الآفاق المشار إليها. ولهذا على المجتمع التونسي أن يضع استراتيجية متكاملة الأبعاد تجمع بين الدولة والقطاع العام والقطاع الخاص والقطاع المدني من أجل تكثيف الاستثمار في عملية الاحاطة من حيث التشغيل وتشجيع النشاط الأهلي والجمعياتي والمدني ومن حيث توفير فرص العمل والتعبير المنظم من خلال الأحزاب والجمعيات والمنابر والمنتديات السياسية والثقافية. فالتدريب على الديمقراطية وعلى التعبير المنظم والمؤسساتي يساعد إلى حدّ كبير على مرافقة الشباب وعلى إبعادهم عن التوترات ومساعدتهم على مواجهة تعقيدات الحياة اليومية. تقليد لكسب الشهرة كما اعتبر السيد حبيب تريعة (دكتور في علم النفس) أن الانتحار عملية اجرامية عن طواعية يقوم بها الفرد إزاء نفسه لسبب من الأسباب أو بسبب من الأسباب وهو أكبر نسبة خطر موت مرتفعة في مجال علم النفس مرتبط بتطور حالة المرض عند المريض حسب الاطار الذي يعيش فيه مؤكدا أنه وفي العادة فإن نسبة الانتحار مرتفعة عندالرجال أكثر من النساء وتتم بطريقة الشنق أو السلاح أو الحرق عند الرجال وذلك بنسبة 82٪ وبطريقة الغرق عند المرأة وذلك بنسبة 65٪. ويمكن حصر عوامل الانتحار في السلوك العنيف جدا ضد النفس وهو ناتج عن عامل الوحدة العاطفية الاجتماعية والوحدة وأمنية الموت إلى جانب الآلام الداخلية وغير المعبر عنها لدى بعض الناس مما يجبرهم على الانتحار للتخلص النهائي من تلك الآلام أو القلق الذي ينتاب المعوقون أو المشوهون الذين يهربون من عاهاتهم بوضع حدّ لحياتهم. وعن تفشي ظاهرة الانتحار في بلادنا أكد الدكتور تريعة انها ناتجة عن عوامل اجتماعية طرأت في ظروف معينة سياسية واجتماعية واقتصادية انجرت عنها ظاهرة البطالة والفقر والتهميش والاقصاء فجاءت حادثة «البوعزيزي» لتشعل فتيل الغضب الذي ظل مكتوما لسنوات وأصبحت طريقة احتجاجه (الانتحار حرقا) بمثابة المثل الذي يقتدى به والذي يسعى كل من يعاني من النقص العاطفي ويسعى إلى جلب انتباه الناس له إلى تقليده لكسب شهرة البوعزيزي العالمية. مرض نفسي وأضاف الدكتور تريعة أن الانتحار هو عملية مرضية ناتجة عن الهشاشة النفسية للمنتحر الجبان الذي عجز عن حل مشاكله وهرب من تحمله مسؤوليته أو المنتحر المجرم والشجاع الذي تغلّب على خوفه فمارس العنف ضد نفسه. وشبه الدكتور تريعة ظاهرة الانتحار بالمشهد الرياضي (كرة القدم) حيث يحاول كل رياضي تقليد أحد أهم «أبطال كرة القدم وهو ما وقع بعد انتحار البوعزيزي» إذ أن كل من ييأس في إيجاد حلّ لمشاكله يفكّر بدرجة أولى في الانتحار كأول ردّة فعل لابراز غضبه ورفضه متخذا من تجربة البوعزيزي قدوة له لا بدّ من اتباعه لتحقيق الشهرة ولتأليب الرأي العام وتسليط الضوء على معاناته وفي ذات الوقت لطلب المساعدة ولتجاوز معاناته باعتبار أن ظاهرة الانتحار هي طريقة في الاحتجاج تكشف عمق المعاناة وهي شكل من أشكال التعبير. جريمة لا تغتفر ومن منظور الدين الاسلامي حول هذه الظاهرة الاجرامية الآخذة في الانتشار تحدث الشيخ أحمد الغربي قائلا ان الاسلام حرّم تحريما قاطعا قتل النفس بغير حق واعتبر الانتحار من الجرائم الكبرى التي توعّد فاعلها لأن الحياة ملك للّه تعالى يمنحها متى يشاء ويسلبها متى يشاء، وقدّس حياة الانسان وأمر بالمحافظة عليها من جميع ما يلحق بها من الضرر، ولذا فقد جعل أمر حمايتها والمحافظة عليها في المرتبة الثانية بعد المحافظة على الدين في ما يعرف بالكليات الخمس وهي: (الدين، النفس، العقل، العرض، المال). وقد حذّر المولى عز وجل من قتل النفس بغير حق سواء بقتل الانسان نفسه بدعوى سأم الحياة أو قتل الآخرين وإزهاق أرواحهم. قال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن اللّه كان بكم رحيما}. وقال أيضا: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنّم خالدا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابا عظيما}. وأضاف الشيخ الغربي ان الاسلام اعتبر ان التعدّي على النفس الإنسانية هو اعتداء على البشرية جمعاء. قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} (المائدة: 32). ومن وجهة نظر السنّة النبوية الشريفة فقد روى البخاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنّم، يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سمّا فقتل نفسه فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جنهم خالدا مخلدا فيها أبدا). وأرجع الشيخ أحمد الغربي سبب تكاثر ظاهرة الانتحار إلى الفراغ الروحي الذي يعاني منه المنتحر وضعف شخصيته في مواجهة مشاكل الحياة وعدم اكتمال المعنى الايماني في نفسه إذ يغلب عليه الظن الخاطئ بأنه سيضع حدّا لما يعانيه من مشكلات أو ضغوطات اجتماعية أو مادية أو عاطفية وهو مفهوم خاطئ ناتج عن الجهل وعدم الصبر والاستسلام لليأس والقنوط وهذه الظاهرة الاجرامية لا تتم معالجتها إلا بالعودة الصادقة إلى اللّه والالتزام بما أمر به.