قال تعالى : „ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما”.( النساء 29).
كما قال سبحانه : „ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق”.( الإسراء 33).
كما أخرج البخاري عن أبي هريرة عليه الرضوان أنه عليه الصلاة والسلام قال : „ الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار والذي يقتحم يقتحم في النار”. يقتحم معناها : يقتحم في التهلكة مختارا في غير جهاد.
رحم الله البوعزيزي وكل من أكرهه الظلم في تونس على قتل نفسه.
لا يملك المرء إلا أن يتضرع إلى ولي النعمة العظمى سبحانه أن يتغمد الشاب محمد البوعزيزي والكهل محمد سليمان من الشابة ( 52 عاما ) وغيرهما ممن ألجأتهم سياسات الحيف والجور إلى قتل أنفسهم. إذا كانت محاكم دنيانا وقضاتها يأخذون بأسباب التخفيف مراعاة لملابسات مكرهة وظروف ملجئة قاهرة حفت بمن يقدم إلى المحاكمة .. فإن الله سبحانه وهو أرحم الراحمين لأولى بالتخفيف وأحرى وهو القائل : „ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا”. قاتل نفسه من المؤمنين أحوج المؤمنين إلى الدعاء الضارع منا جميعا ناهيك أننا نصلي عليه صلاة الجنازة وندعو له وربما نشفّع فيه ويدفن في مقابرنا ويرثه أهله. فإذا إجتمعت إلى كل ذلك ملابسات جور وعسف كقطع الليل المظلم ولعله لم يكن ينوي قتل نفسه ولكن تأدى الأمر إلى ذلك قدرا من الله مقدورا .. إذا كان ذلك كذلك فإن هؤلاء الذين قتلوا أنفسهم في أثناء إنتفاضة الخبز الراهنة في تونس لجديرون منا جميعا بإستمطار الرحمة لهم. تلك منزلة من منازل وسطية الإسلام بحسب ما أرى بين إغداق نياشين الشهادة بسخاء من لا يملك وبين قياس أولئك على المنتحرين لأسباب أخرى تافهة جدا من مثل : السقوط في إمتحان ما أو عدم التمكن من الزواج بإمرأة ما أو غير ذلك مما ضجت به تونس في سنوات الجمر الحامية حتى كاد أن يتحول إلى ظاهرة إجتماعية بعدما كانت تونس في أمان من مثل تلك الفواجع الإجتماعية والإنحطاطات القيمية. مما يعلمك الإسلام أن كل شيء مرتهن لملابساته المحيطة فإذا سلخ عنه حمّل ما ليس منه في العادة. ولذلك عني العلماء من قديم بمناسبات النزول ( ولو دونوا لنا كثيرا من تلك المناسبات في الحديث النبوي بمثل ما فعلوا في القرآن الكريم لوفروا علينا اليوم جهدا ولأناروا لنا بعض ما يحتنكه الذي يحتنكه) لتعميق الفهم وإحسان القياس.
كلمات لا بد منها في صدر هذه الموعظة المتواضعة. 1 مما يعلمك الإسلام وكفى بالإسلام نعمة أن الحق أو ما يتراءى لك أنه كذلك إجتهادا فيما يختلف فيه الناس في العادة أحق أن يتبع. ولكن هل يكون الحق فعلا مرا؟ أجل. ولولا مرارة الحق سيما بينك وبين الناس أو بينك وبين الله سبحانه فيما هو بذل وتضحية بالأموال والنفوس والصبر الجميل عند النائبات لما كان للإبتلاء من معنى ولأستوت الجنة والنار. غير أن لمرارة الحق طعم خاص. هو طعم مشوب بالرضى كمن يلعق الصبر بلسانه أملا في الشفاء من داء وبيل. كثير منا سيما من السياسيين ومن في حكمهم يهاب الإصداع بما يراه حقا أو صوابا كلما تعلق الأمر بالناس بل يتملق بعضنا الناس وهي مفارقة عجيبة جدا أن تلفى الرجل يضع روحه فوق راحته في مواجهة حاكم سفاح فإذا تعلق الأمر بالناس لاذ بالصمت المريب.
2 عدم إقرار الفقيد محمد البوعزيزي ومن معه ممن قتلوا أنفسهم إحتجاجا على سياسات الجور والحيف .. على ما أقدموا عليه لا يعني بحال التهوين من الجرائم التي تقترفها عصابة الفساد والنهب والسلب في تونس بله تزكيتها أو مجرد تفهم الصمت المريب الذي يلف كثيرا منا. معاذ الله. الله وحده يعلم أن المرء لا يرجو لعصابة الفساد في تونس سوى مصيرا شبيها بمصير دكتاتور رومانيا الأسبق ( تشاوسيسكو) عندما ظلت موجات الإحتجاج من الجماهير المنتفضة تقتحم قصر البؤم والشؤم حتى ظفرت بفرعون رومانيا و زوجه ونفذت فيهما حكمها العادل. ذانك مستويان من التفكير منفصلان على نحو أن جور عصابة النهب والسلب في تونس لا يبرر بأي حال من الأحوال إقدام هذا على قتل نفسه أو تلك إلا أن يكون تهديدا أو قتلا خطأ. وبمثل ذلك كان الموقف الإسلامي الأرشد من مسألة الإضراب عن الطعام. لئن كان وسيلة نضالية مجدية فإن التأدي منه إلى الموت أمر لا يقبل من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر.
وهل يظن عاقل في تونس أن أحدا من شرذمة العصابة يأسف لمقتل البوعزيزي أو غيره؟ وهل تريد شرذمة العصابة غير فناء الرجال الذين يكدرون عليهم حياة البذخ العاهر والترف الفاجر؟
المسألة محكومة من جانبين : جانب الدين وجانب الدنيا.
لا يقتل نفسه سوى من يملك نفسه.
من بداهة الإيمان أن الإنسان يعتقد أنه لا يملك نفسه. أجل. حتى نفسك التي بين جنبيك. من يملكها؟ الله وحده سبحانه هو من يملكك ونفسك وما تملك. نفوسنا وحياتنا وأرواحنا هي ودائع الله عندنا يهبها متى شاء ويستردها متى شاء وسبحان من يحول بين المرء وقلبه. ولذلك أخرج الشيخان عن أبي هريرة عليه الرضوان أنه عليه الصلاة والسلام قال : „ من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا”.
حتى من يئس من حياته لا يجوز له قتل نفسه.
أخرج الشيخان أنه عليه الصلاة والسلام قال : „ إن رجلا كان ممن قبلكم خرجت بوجهه قرحة فلما آذته إنتزع سهما من كنانته فنكأها فلم يرقإ الدم حتى مات. قال ربكم : قد حرمت عليه الجنة”.
بل قال بعض العلماء أن قتل الإنسان نفسه أشد جرما من قتله غيره لأن الإنسان مستأمن على نفسه أو هو جار على الفطرة جورا جاوز كل الحدود. ومعلوم أن أقوى غريزة مادية في الإنسان هي غريزة حب البقاء ومنها تنحدر الغريزة الجنسية وهي تلتقي مع أقوى غريزة معنوية أي : حب التقدير. ولم يفطرنا سبحانه على ذلك مادة ومعنى إلا إستئمانا على وديعته التي إستودعنا إلا بذلا في الحق من مثل الجهاد وما في حكمه.
ولنا في أنواع المقاومة الأخرى ألف مندوحة عن قتل أنفسنا.
ذلك فيما يتعلق بحكم الإسلام في قتل الإنسان نفسه. أما فيما يتعلق بالدنيا فإننا أغنى الأغنياء عن قتل أنفسنا ولنا فيما لا يحصى من وسائل المقاومة ضد عصابة النهب والسلب في تونس ألف مندوحة وبديل. ما تقترفه العصابة البائسة في تونس من جرائم ضد مقومات وجودنا ثقافيا وإجتماعيا وسياسيا ومنذ عقدين كاملين .. ليس جهلا بأرشد نظم الحكم ولا صدفة عمياء ولا تجربة تبين غيها. لا يعتقد ذلك غير البله الذين مجتهم السذاجة و ليس هناك أبله في هذا ولكنه النفاق المارد الذي يزين لصاحبه تزكية أعتى الفراعنة. ما تقترفه عصابة الفساد في تونس على إمتداد هذه المدة الطويلة أمر مخطط له دوليا ومحليا بعناية فائقة. ألا ما أحوجنا إلى عدم الغفلة عن حقيقة إجتماعية تاريخية ثابتة مؤكدة لم تتخلف ولو مرة واحدة : طغيان الفساد في الأرض إذا جاوز حدا معلوما ربك وحده سبحانه يعلم ذلك الحد يشيد بينه وبين خط الرجعة خندقا سميكا يحجزه عن الأوبة وذلك هو بعض معاني الطبع على القلب الذي تحدث عنه القرآن الكريم. ولكن البله منا يظلون يجرون وراء السراب الخادع فيضلون ويضلون من وراءهم. هم بله حتى لو مردوا على النفاق وهل النفاق غير بلاهة بلهاء!
بين الحكم القضائي والدياني.
من مباحث الفقه المعروفة عند طلابه ( الحكم القضائي والحكم الدياني). المقصود بالحكم القضائي هو حكم الدنيا وأمارته حديث صحيح للنبي الأكرم عليه الصلاة والسلام يقول فيه :“ لعل بعضكم يكون ألحن حجة من بعض فأقضي له فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له بقطعة من النار” أو كما قال صلى الله عليه وسلم. الحكم القضائي ينهي الخصومة بين الناس في الدنيا وقد يلابسه ظلم حتى في أشد المجالس تحريا للعدل بسبب أن القاضي بشر يجتهد وقد لا يصيب الحق كله فمن بخس من ذلك شيئا في الدنيا يؤتى أجره يوم القيامة كاملا إن شاء الله تعالى. أما الحكم الدياني فهو حكم الله سبحانه يوم القيامة وهو حكم يراعي أول ما يراعي طرا مطلقا النية القلبية. لقد رأينا أن الحكم الدياني قد لا يصيبه حتى محمد عليه الصلاة والسلام بسبب بشريته لا بسبب نبوته.
ما المقصود بالحكم القضائي والدياني هنا؟
المقصود منه أن ما لا نقر عليه الفقيد محمد البوعزيزي رحمه الله سبحانه رحمة واسعة ومن معه ممن قتلوا أنفسهم إحتجاجا على سياسات الجور والنهب والسلب من عصابة الفساد في تونس.. ما لا نقره عليهم لا يعدو أن يكون رأيا بحسب ما بدا من ظاهر الأمر ولكن تنزيل ذلك على حالة بعينها إن تكن حالة البوعزيزي أو غيره سيما في حالات الإحتجاج الإجتماعي والإنتفاضة السياسية ذات الدوافع المعروفة أمر لا يتألى به على الله سبحانه إلا أحمق. لعل حكما ديانيا يقضي به ربك سبحانه وهو ما أرجوه من سويداء فؤادي والله بما علم مما نجهل من نية هذا الفقيد ... لعل حكما ديانيا ينسف الحكم القضائي نسفا وسبحان من يحكم ولا معقب لحكمه.
ذلك هو معنى وقيمة لزوم الظواهر في مثل هذه الأمور لئلا يكتب المرء ممن يقدم بين يدي الله ورسوله غرورا أو سفاهة فيخسر مستقبله يوم القيامة.
لا تقتل نفسك ولا تتمنين الموت بل كن شهيدا.
حرص الإسلام على حق الإنسان في الحياة حرص لو يكنه الناس حقيقته لهرعوا إلى الإسلام هرع المكدود إلى فيئ ظلال وارفة ظليلة. قال عليه الصلاة والسلام : „ لا يذلن أحدكم نفسه”. قيل وكيف يذل أحدنا نفسه يا رسول الله؟ قال : „ يكلفها من البلاء ما لا تطيق”. أي حرص ذاك على حرمة النفس البشرية! كما قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الشيخان عن أنس عليه الرضوان :“ لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي”.
لا تقتل نفسك ولو إحتجاجا على عصابة النهب والسلب في تونس ولكن كن شهيدا. لا شك في ظاهر الأمر في أن الذين قتلهم رصاص البوليس الغادر شهداء. ألم يقل عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : „ من قتل دون ماله فهو شهيد”؟. لا بد من لزوم ظاهر الأمر وسبحان من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. لزوم ظاهر الأمر سواء عند الشهادة أو عند قتل النفس لا يعني البتة تهوينا ممن إقتحم الإنتفاضة حتى قتل شهيدا برصاص عصابة النهب والسلب وكيف يهون مؤمن عاقل من خير ختام؟ كما لا يعني ذلك إعداما لبلاء من إستعجل الأمر فقتل نفسه أو تهوينا من كسبه. ولكنه أدب الإسلام القاضي بعدم التألي عليه سبحانه. نقول عن فلان : قضى شهيدا ولا نزكي على الله أحدا. كما نقول عن الآخر : لا نقره على قتل نفسه والله حسيبه بل نظل ندعو له بالرحمة والمغفرة وهل يتمنى النار ذو كبد حرى لذي كبد حرى؟
دعوتي لشباب تونس : لا تقتلوا أنفسكم بل كونوا شهداء دون أموالكم وحقوقكم.
لا يملك المرء إلا أن يحيي شباب تونس ممن تجشم عناء التصدي لعصابة الفساد والنهب والسلب بعدما ظن أزلام الطغمة أن الأمر إستقر لهم وإستتب في ضيعة تزحمها الخرفان التي تسمن لتؤكل. ضيعة ورثتها تلك العصابة الخائبة إسمها تونس. بلدة طيبة ورب غفور ولكن تسلط عليها في هزيع ذات ليلة ليلاء من خريف عام 1987 من لا يرقب فينا إلا ولا ذمة. تسلط علينا وفي يده مدية أخمد بها الأصوات فلا تكاد تسمع إلا همسا. وهيهات .. في بداية سنوات الجمر الحامية من عام 1991 لا تسمع حتى الهمس لفرط ما إنبسط الخوف وإندلع الجزع في كل فج. تسلط علينا السفاح ذو المدية الحادة ثم سلط علينا عائلته وأصهاره. لا يملك المرء إلا أن يزف ألف ألف تحية لشباب تونس ممن حطموا قيود السفاحة متجرئين على عصابة الفساد والنهب.
وكل العزاء الخالص لعائلة البوعزيزي وغيره ممن أكرهتهم عصابة النهب والسلب على قتل أنفسهم. اللهم إرحمهم جميعا رحمة واسعة فإنك بهم وبنا راحم ولا تعذبهم وإيانا فإنك علينا جميعا قادر. اللهم بارك في إنتفاضة تونس وقيض لها من الشباب من يؤجج نارها الحامية اللاهبة حتى يقبض على رئيس العصابة وعائلته وأصهاره فيقتص منهم جزاء وفاقا أو يرحلوا عنا إلى غير رجعة غير مأسوف عليهم. آمين آمين آمين.