تونس «الشروق»: الى حدود 14 جانفي 2011، كان وجود السيد محمد البصيري بوعبدلي على رأس حزب سياسي مرخص له في تونس أشبه بالمعجزة... فالرجل عرف منذ أكثر من 10 سنوات بأنه أحد أبرز الشخصيات «المدمرة» لأعصاب بن علي، بسبب ما عرف عنه من مواقف رافضة باستمرار لإملاءات المخلوع وحاشيته، وخاصة لمطامعهم المتوحشة في مشاركته «إمبراطورية» التعليم الخاص التي يملكها... وبسبب ما عرف عنه من سعي «دؤوب» الى فضح ما كان يدور خلف أسوار قصر قرطاج من فساد... عبر رفقاء، لم تكن صورتهم أفضل حال منه لدى بن علي على غرار سليم بقة وكمال اللطيف و«نيكولا بو»... اليوم، استرجع بوعبدلي «توازنه» السياسي، فأسس حزبا أطلق عليه تسمية «الحزب الليبرالي المغاربي» وانضم الى الهيئة العليا للإصلاح السياسي للمساهمة في عمل الهيئة بما حصده من تجربته النضالية وخاصة في مشروع المرسوم الانتخابي... «الشروق» إلتقت محمد البصيري للحديث ضمن هذا الحوار حول مواضيع مختلفة لها علاقة بحزبه وبعمله صلب الهيئة العليا وببعض نضالاته والمظالم التي اعترضته طيلة مسيرته المهنية في قطاع التعليم الخاص... ما المقصود بالطابع «الليبرالي» و«المغاربي» في تسمية حزبكم؟ التونسيون في العادة يتخوفون من كلمة «ليبرالية» ويذهب في الأذهان أنها تعني التسيب... طبعا ليبرالية حزبنا ليست متوحشة، فتونس بلد دينه الإسلام... إذن ليبرالية حزبنا هي ذات مواصفات تونسية صرفة شأنها شأن الثورة التونسية التي صدرناها الى الخارج... ولا أتصور أن أي تونسي بإمكانه أن يصبح ليبراليا بنسبة 100% لأن الجميع (وأنا واحد منهم) عاش الفقر والتهميش، وبالتالي فإن الليبرالية في تونس حسب رأينا لا يمكن أن تكون الا اجتماعية شعبية قوامها الانسان التونسي مرأة كان أم رجلا، وتؤسس لفرحة الحياة، وبالتالي لا داعي للخوف من هذه الناحية... وبالنسبة الى التوجه المغاربي للحزب، فإن المقصود منه هو اعادة الاعتبار لقيمة المغرب العربي في تونس، فمستقبلنا ومستقبل الدول المغاربية يجب أن يمر عبر الوحدة على جميع الأصعدة (الطرقات حرية التنقل العملة...) وذلك حتى نتمكن من مواجهة بقية القوى العالمية بكل ندية ما هي أبرز أهداف حزب «ح.ل.م»؟ من أبرز أهداف حزبنا هو إرساء مشروع للحداثة والتقدم الاجتماعي مؤسس على النهوض بالحريات وبالمؤسسات الديمقراطية وإنشاء مجتمع قائم على العدالة والرخاء والتضامن والحداثة وسيكون شعارنا المعتمد هو «عمل عدالة تضامن»... وقد وضعنا أولوية صلب عملنا وهي الاهتمام بقطاع التربية والتكوين والذي نعتقد أنه آن الأوان لمراجعته... فبورقيبة راهن على التعليم ومكن تونس من سمعة هامة في هذا المجال لكن نظام بن علي البائد جاء ليضغط على النقطة الحساسة للشعب التونسي وهي تعليم أبنائه... فإستفزه بنظام تعليمي ضعيف أسس لانتشار البطالة عبر تمكين كل من هب ودب من النجاح والحصول على الشهائد العليا التي لم تنفع في سوق الشغل المحلية والدولية... وهو ما تسبب في ثورة الشباب التونسي منذ ديسمبر الماضي الى حين اسقاط النظام... وبالتالي فإن بن علي «حفر قبره بيديه» وساعده في ذلك بعض مستشاريه وبالتالي، فإن مراجعة وإصلاح المنظومة التربوية هو بمثابة التحدي الممكن تجاوزه بفضل ما يتمتع به التونسي من قيمة بشرية كبرى. كما توجد لحزبنا برامج عديدة لها علاقة بمعالجة البطالة وأزمة السكن والتنمية الاقتصادية الجهوية والتهميش الاجتماعي (التغطية الصحية والاجتماعية) وإيجاد الحلول الضرورية لمشاكل الشباب والصحة والبحث الطبي ورعاية المسنين والمشاكل البيئية والفلاحية ومن أبرز تحدياتنا هو إدخال اصلاح جذري على النظام الاداري للدولة الذي يشكو من الفساد اضافة الى اهتمامات عديدة أخرى تصب كلها في مصلحة تونس أولا وقبل كل شيء. نأتي الآن الى مشروع القانون الانتخابي، فقد صوتّم لفائدة الفصل 15 من هذا المشروع وهو الفصل الذي يقضي بإقصاء التجمعيين، فهل أن المرحلة تقتضي فعلا اقصاء هؤلاء من الحياة السياسية؟ صحيح أنا صوت مع الفصل 15 من مشروع المرسوم الخاص بانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، وهو الفصل القاضي بمنع كل من تحمل مسؤولية صلب الحكومة أو التجمع طيلة ال23 سنة الماضية من الترشح لهذا المجلس... لكن لابد من التوضيح هنا أني مبدئيا أرفض تشتت أبناء الشعب التونسي فتجارب مماثلة لدول أخرى عرفت الثورة، كشفت أن الانتقام والتشفي لا ينتج عنه الا التقاتل والتناحر... فتونس اليوم لابد أن تبقى بعيدة عن مثل هذه الأمثلة. أنا مع المصالحة الوطنية ومع محاسبة كبار المسؤولين في الوقت نفسه لكن صغار المسؤولين أعتقد أنه من الأفضل إبقاؤهم بعيدا عن المحاسبة لأن الأمر لم يكن بأيديهم... ومن ناحية أخرى أعتقد أنه لا يجب تسييس هذا الجانب... فالبعض داخل الهيئة العليا للإصلاح السياسي لهم غايات خاصة ونوايا سيئة تهدف الى الاجتثاث والانتقام وتشتيت الشعب قصد الوصول الى الحكم... وأكيد أنهم لن ينجحوا في مسعاهم هذا... ولكن لابد من القول إن أعضاء الهيئة العليا فيهم شرفاء... وأتمنى أن يكون تفكير الجميع متجها فقط نحو مصلحة تونس، عبر المصالحة الوطنية والرغبة في خدمة الوطن... وأتمنى أن تجد الحكومة مخرجا لهذا الفصل 15 يصب في خانة التسامح والطيبة التي يتميز بها التونسي وأتمنى أيضا أن يجد الشعب التونسي برمته مخرجا لهذا الفصل قبل ان تجده الحكومة حتى يبرهن على تسامحه وعلى رغبته في تحقيق الانتقال الديمقراطي والعدالة... وقد سبق أن قلت إننا على استعداد لاستقطاب «التجمعيين» الذين ثبت اخلاصهم وعملهم بشرف لصالح الدولة ولا أرى مانعا في ذلك. وطريقة الاقتراع المقترحة في المشروع، لماذا رفضتم التصويت لفائدتها؟ بالنسبة الى طريقة الاقتراع المضمنة بالمشروع (الاقتراع على القائمات) صوتّ ضدها رغم أنها مناسبة لحزبنا... إذ أعتقد أنه بهذه الطريقة سنحصل على فسيفساء مختلفة من النواب داخل هذا المجلس وعلى آراء مختلفة، وهو ما قد يؤسس للمزايدات المتواصلة على الطريقة الايطالية أو اللبنانية (بيع وشراء) داخل المجلس، ولعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي للبلاد خاصة بسبب التغييرات المستمرة للحكومة وبسبب ضعف القدرة التنافسية للاقتصاد وهو ما لا يخدم مصلحة البلاد... باستثناء ممثلي حركة النهضة، طالب كل أعضاء الهيئة بضرورة اتخاذ ميثاق جمهوري بين كل الاحزاب وتضمينه بديباجة الدستور... فما أهمية هذا الميثاق الجمهوري في نظركم؟ وضعنا صلب الهيئة العليا للإصلاح السياسي برنامجا لوضع ديباجة للدستور تكون بمثابة ميثاق جمهوري، يقع التعرض فيها للشهداء ولضحايا المطالبة بالحرية والكرامة، وبصفة عامة لضحايا الحريات الأساسية. وقلنا إنه لا يجوز لأعضاء المجلس التأسيسي المس بها. وقد اتفق كل أعضاء الهيئة على هذا التوجه ما عدا ممثلي حزب النهضة الذين اعتبروا أن الديباجة من مشمولات المجلس التأسيسي عند الاعداد للدستور، ولست أعرف ان كان هذا الموقف هو رفض غير مباشر من «النهضة» للميثاق الجمهوري أم مجرد تأجيل للمسألة لا غير... والرغبة في هذا الميثاق الجمهوري تضم كل الأطياف السياسية في تونس لأنها ستؤسس حتما للاستقرار السياسي في المستقبل حتى لا يأتي الى الحكم، في ما بعد، من يريد الالتفاف على مبادئ الثورة والتغيير التي سيقع تضمينها بهذا الميثاق. كيف تقيمون عمل الهيئة العليا للإصلاح السياسي اليوم؟ يمكن القول ان المشاركة والعمل صلب الهيئة كان ديمقراطيا الى أقصى الحدود رغم وجود نوايا سيئة كما سبق أن ذكرت... وبكل تأكيد هناك نقائص في عمل الهيئة الى حد الآن، لكن على الأقل توصلنا الى إنشاء قانون انتخابي في وقت وجيز لم يحلم به أي كان قبل 3 أشهر سيساعد حتما على مزيد النهوض ببلادنا. ماذا عن المظالم التي تعرضت لها في عهد بن علي وخاصة تلك المتعلقة بمؤسساتك التربوية التي كانت كل جهود بن علي وحاشيته ترمي الى غلقها؟ في سنة 1990-1991، طلب مني بن علي ترسيم احدى بناته بمدرستي الابتدائية (شارع محمد الخامس)، فقبلت عن مضض بذلك لا لشيء الا لأني كنت متخوفا من المسائل الأمنية ومن ضمان سلامتها. فطلب مني معاملتها كغيرها من التلاميذ ودون أي تمييز... وبالفعل واصلت دراستها الى السنة السادسة ابتدائي وكان مستواها متوسطا لا غير ولم تتجاوز عموما معدل 12 من 20 وكان باديا على وجهها ومن خلال تصرفاتها في القسم ومع زملائها التلاميذ أنها تمر بين الحين والآخر بمتاعب نفسية على الأرجح أنها بسبب مشاكل عائلية. وبعد مغادرة البنت الكبرى، جاء دور البنت الصغرى، والتي يمكن القول إن متاعبي مع والدها (الرئيس المخلوع) بدأت منذ ترسيمها بمدرستي... فقد تزامن ذلك مع لقاء لي مع بن علي في مكتبه بالقصر الرئاسي تطرقنا فيه لعدة مسائل ومنها أني طلبت منه الترخيص لي في فتح كلية خاصة للصيدلة... لكني فوجئت به يضرب بيده على الطاولة ويقول لي «فيفتي فيفتي» والمقصود هو قبولي به شريكا بالتناصف في مشروع تلك الكلية الخاصة وأظن أنه كان ينوي الشراكة في كامل مؤسساتي فتظاهرت بعدم الفهم وواصلت الحديث معه وكنت متأكدا أن ذلك المشروع لن يرى النور... وفي نهاية العام الدراسي تم اخراج ابنته من مدرستي ثم وقع حبك سيناريو لي عن طريق توجيه مطلب لادارة المدرسة قصد قبول ترسيم تلميذة ليس لها المعدل المطلوب ولا تستجيب بالتالي لشروط الترسيم واتضح أنها ابنة محام مقرب من القصر، فزاد اصراري على رفض قبولها. وتبعا لذلك اتخذت وزارة التربية قرارا بغلق المدرسة وتم الضغط على الأولياء لكنهم تمسكوا بمزاولة أبنائهم الدراسة في مدرستي ووقعت اعادة فتحها بعد 4 أيام فقط. ولم يشف كل ذلك غليل بن علي، فتم في ما بعد غلق معهد لويس باستور في 2007 بتعلة عدم حصولي على رخصة لفتحه، وفي الحقيقة كان ذلك بسبب فتح مؤسسة تعليمية خاصة من طرف ليلى الطرابلسي وسهى عرفات... وفي الأثناء، وقعت دعوتي من الشرطة للتحقيق في ثكنة بوشوشة بتهمة سب وثلب سهى عرفات فكان ردي أن هذه السيدة لا تعني شيئا بالنسبة الي وهو ما زاد في حدة الغضب تجاهي وتواصلت المظالم والمتاعب وتواصل غلق معهد «باستور»، وتدخل مقربون من بن علي على غرار منصف الماطري والد صخر الماطري ليطلبوا مني توجيه رسالة اعتذار له، فحررت عريضة طويلة عددت فيها انجازات «بوعبدلي» في تونس والمظالم التي تعرضت لها، وختمتها بأني مستعد للتنازل عن تعويض المضار التي لحقت بي من تصرفات النظام... وهو ما زاد في غضبه وحقده علي. وواصلت التصعيد من خلال تأليف كتاب «يوم أدركت أن تونس ليست بلد الحرية» الذي صدر في فرنسا على الانترنات مجانا قبل موعد انتخابات 2009... وتم تبعا لذلك التخطيط لغلق جامعتي الخاصة بشارع خير الدين باشا، وأغلقت فعلا وهجرها عدد كبير من الطلبة. والحمد لله، عادت الجامعة الخاصة للعمل في جانفي الماضي، كما وعدتني الحكومة المؤقتة بإعادة فتح معهد لويس باستور في السنة المقبلة. وماذا عن كتاب «حاكمة قرطاج» ومساهمتك فيه رغم المراقبة المسلطة عليك؟ رغم المراقبة اللصيقة علي وعلى كمال اللطيف، الا أننا كنا نلتقي كل يوم سبت تقريبا، وكان يمكنني من كل الأسرار والمعلومات الخاصة بالقصر وبالخصوص تلك المتعلقة ببن علي وزوجته وأصهاره... وكانت هذه المعطيات تصل الى كمال من أشخاص لا يمكن التشكيك فيهم.. وكنت أتنقل خصيصا الى باريس لسرد المعطيات والأسرار مباشرة الى الصحفي التونسي المقيم بباريس سليم بقة والذي لم يكن يتأخر في نشرها بصحيفته «الجرأة» (L› audace)... كما كان نيكولا بو (مؤلف حاكمة قرطاج) يحصل على هذه المعطيات لتضمينها في صحيفة «بقشيش» لإعداد كتابه. ولم يكن «بو» يصدق بسهولة تلك المعطيات نظرا لغرابتها و«فظاعتها»، وعندما جاء الى تونس بعد الثورة قال إنكم كنتم محقين فعلا وأن ما أوصلناه له من معلومات لم يمثل الا جزءا صغيرا من الحقيقة واستحضر أنه ذات ليلة كنت على طاولة العشاء مع نيكولا بو في باريس، وكان يستعد آنذاك لاصدار «حاكمة قرطاج» فوردت عليه مكالمة هاتفية من صاحب مجلة معروفة بتمجيدها المستمر لتونس ولرئيسها ولليلى بن علي، وعرض عليه الحصول على المبلغ الذي يريده مقابل عدم نشر الكتاب، لكن نيكولا بو رفض، وكان موقفا شجاعا للغاية منه في تلك الليلة، رغم التهديدات بالقتل التي كانت تحيط به وبي وبسليم بقة وبكمال اللطيف في أية لحظة.