٭ القاهرة، الشروق/ من مبعوثنا الخاص كمال الشارني ميدان التحرير في قلب القاهرة هادئ صباحا، لكنه لم يفقد شيئا من سحره التاريخي وجاذبيته منذ أن احتوى ملايين المصريين الثائرين الذين شدوا أنفاس العالم. الميدان لا يعترف بالعطلة الثلاثية التي يدخل فيها المصريون منذ الخميس لاتفاقها مع ثلاث مناسبات: عيد تحرير سيناء وعيد شم النسيم وأكل الفسيخ، ثم قداس القيامة القبطي الذي سيتم لأول مرة منذ أكثر من أربعين عاما دون الدعاء للسيد حسني مبارك. أمام مدخل محطة مترو الأنفاق في الميدان، عشرات التجار الصغار يعرضون كل ما له علاقة بالثورة: أعلام بكل الأحجام والمواد لعدة دول عربية خصوصا تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وشعارات مكتوبة بطرق فنية تدعو إلى الاستمرار في الثورة للقضاء على الديكاتورية. رسامون شباب يرسمون لك في لحظات علم أي بلد عربي على وجوه الأطفال والشباب، مناضلون مصرون على الحضور يوميا لتعليق لافتات تدعو إلى تحقيق مكتسبات الثورة، وآخرون يرفعون صورا لأطفال مفقودين في فوضى التظاهرات التي لا تهدأ. سجن طرة عناوين الصحف المصرية كلها تتحدث عن الرئيس السابق الذي تحول إلى متهم: «يأتي إلى سجن طرة أم لا يأتي ؟». يجب أن يأتي صاغرا، يقول لي عزت ياسين محمد، بائع الصحف في الميدان، مضيفا: «يجب أن يذوق ما ذاق منه الشعب المصري عشرات السنين، ولو أننا نعتقد أنه سوف يلقى معاملة ملوكية مثل ابنيه، لقد جلبوا لهما ثلاثة كبرها 14 قدما (حوالي 3 أمتار مكعبة)». أفكر في سجن طرة، بعد أن أكد لي العديد من المسؤولين في الإعلام استحالة الدخول إليه أو إجراء أي مقال صحفي عنه. امتطيت مترو الأنفاق إلى محطة طرة البلد. في المترو، محا شباب الثورة اسم محطة مبارك من كل العربات والمحطات، قبل أن يصدر يوم الخميس الفارط الحكم القضائي برفع اسم مبارك وزوجته وأبنائه من أي مكان عام في مصر إعلانا لنهاية امبراطورية آل مبارك في مصر. في الطريق، تعرفت إلى ضابط صف في الشرطة المصرية يشتغل في سجن طرة. قال لي: «عن أي سجن تتحدث ؟ فهو مدينة بأكملها، مساحتها أكثر من كيلومتر مربع». سألته عن سجن المزرعة الذي يوجد فيه أكثر من نصف أعضاء الحكومة فتبين أنه لا يشتغل فيه. قال لي محذرا: «ممنوع منعا باتا على الصحفيين، لو رآني أحد معك لوقعت في داهية، أنا أريك كيف تصل إليه فقط». من محطة طرة البلد، أمتطي تلك العربة الجهنمية ثلاثية العجلات التي يسميها المصريون ‹»توك توك»، يقودها صبي لم ينبت الشعر في وجهه بعد، إنما ببراعة مخيفة إلى بوابة سجن طرة. المكان أشد تحصينا من قلعة، وهي مدينة ضخمة من الأحياء الأمنية والعسكرية والسجنية على جانبي الطريق. البوابات المدرعة والمعابر المجهزة لصد أي هجوم في كل مكان، أقف قليلا مع بعض الناس الذين جاؤوا محملين بأطباق الأكل والملابس لزيارة ذويهم المساجين، مفكرا في ما يقال عن ظروف سجن جمال وعلاء مبارك في هذا المكان الذي يبدو مثل آخر الدنيا، مكتفيا من الزيارة بالتقاط صور لبوابة السجن من بعيد دون إثارة انتباه الحراس. فعلا، لا يمكن للشيطان نفسه أن يدخل هذا السجن، فما بالك بالهرب منه كما يقول الخبراء في مصر. أنصار مبارك والدربوكة أعود إلى ميدان التحرير حيث المواعيد اليومية للتظاهرات. حدثني زميل مصري بصحيفة «الأهرام» عن مجموعة من أنصار مبارك تتظاهر أحيانا أمام مبنى التلفزيون هربا من المواجهة مع شباب الثورة في ميدان التحرير. حوالي مائة شخص من الجنسين يرفعون صورا للرئيس السابق وشعارات تنادي بالوفاء له، وخصوصا لافتة كبيرة فيها صورته وعبارة: «نعم للتغيير، لا للإهانة». يقف المتظاهرون من جهة النيل مقابل مبنى التلفزيون المعروف باسم ماسبيرو، ويفصلهم عن الرصيف المقابل أسلاك شائكة مخيفة. يحذرني ضابط «مدجج بالسلاح حتى أسنانه» من خطر الأسلاك الشائكة، فيما يستغل العديد من ركاب السيارات تعطل المرور لإطلاق شعارات معادية لأنصار مبارك، في الجهة المقابلة، يقف عدد من الشباب يطلقون شعارات ساخرة ضد أنصار مبارك ويضربون على الدربوكة في عمل استفزازي أكثر منه معارضة. قالي لي عسكري: «هم يتظاهرون منذ عدة أيام، لكن لحسن الحظ، لم تحدث مواجهات بينهم وبين شباب الثورة». باستثناء ذلك المشهد النافر، كل شيء في مصر تحول ضد مبارك وأهله ومن كان يحيط به. الصحف المصرية تتبارى في كشف الأملاك الطائلة وأموال قارون التي اكتسبوها في ظروف غريبة، إهدار المال العام بلا حساب وإهداء الأملاك العامة للأقارب والأصدقاء. المجتمع المصري يتحرك يوميا لملاحقة من يسميهم رموز الفساد، لأن القانون المصري يبيح لأي مواطن أن يتقدم ببلاغ أو دعوى ضد أي مسؤول أو مؤسسة أو ضد الحكومة نفسها بصفته متضررا وهو ما مكن آلاف الأشخاص من الناشطين السياسيين وحتى المواطنين العاديين من جر مسؤولين سابقين إلى القضاء للتحقيق حول قضايا الفساد والظلم. قطع المصريون أشواطا كبيرة في المواجهة مع الديكتاتورية بعد أن سقط الديكتاتور، مما يجعلنا نطرح أسئلة كثيرة عن «مصر ما بعد الثورة»، أي شيء تغير في مصر وهو ما سنراه في المراسلات القادمة.