لا أقصد تصفيق الحفلات ، وإنما تصفيق الفرقعة الحادّ الشديد، الذي يصمّ الآذان ، وترتعش منه الجدران. كنت أسمعه في أيّام «المرحومين السّابقين» يؤثّث الاجتماعات الرّهيبة، يعمّرها، يكسبها هيبة تملأ القلوب بالرّهبة، وتعطي المشروعيّة الشّعبيّة لكلّ طاغية يحبّ رؤية شعبه ذليلا « سكبانا». إنّ ذاكرة جيلي ما زالت تختزن مشاهد عجيبة لاهتياج الدّساترة و بورقيبة يستهلّ خطابه: «أبنائي الأفاضل بناتي الفضليات ، أيها الشعب التونسي»، فيتدفّق التصفيق الحادّ كشلاّل ماء من نهر عظيم، ثم يتواصل بعد كلّ مقطع. كذلك كان الأمر مع بن علي، ما أن ينطق بكلمات خطابه الأولى: «أيها المواطنون، أيتها المواطنات» حتى تدمى أكفّ التّجمّعيّين بتصفيق كأنّه انصباب الحجر على القصدير، تأتي بعده الكلمات الفارغة المرصوفة مثل: «نجتمع في هذا اليوم العظيم ...» ويعود التصفيق بنفس الشدّة والحدّة، وكأنّما جنّ الناس شوقا إلى مثل هذه البلاغة التي لم ينطق بها إنسان. سيبقى التصفيق رياضتنا الوطنية، لذا وجب أن يتفقّد كل هواته أصابع أيديهم واحدا واحدا كي لا تتخشّب وتفقد المرونة التي اعتادتها منذ نصف قرن. وليحرّكوها مرّات في اليوم إلى الأمام والخلف، قبضا وبسطا، طيّا على اثنين ثم على ثلاثة، وليجرّبوا طقطقة مفاصلها وكراسحها وأناملها، مع مواصلة التدرّب بلا كلل. وليأخذوا أكفّهم بالرّعاية المتواصلة ، وبدلكها قبل النّوم حتى تحافظ العروق على حيويّتها، والجلدة على متانتها، وهناك «بودرات» خاصّة أنصح بأجودها لتحاشي الاهتراء السّريع. لا بدّ أيضا من تمرين الذّراعين، كما تفعل الطيور بأجنحتها، فنجذب كل ذراع إلى الخلف، ثم نعود فنجمعه بالذّراع المقابل، ليحافظا على مرونتهما، ولا يصابا بالتّصلّب، وعدم الاستجابة عند اشتداد الحماس. إنّ التصفيق من تراث مجتمعنا، فهل ننساه بمجرّد أن غاب عن أعيننا الزّعيم المنعوت بأنه الخيار الأوحد والنّجم الفرقد؟ وهو مكسب وطنيّ لا يجوز التفريط فيه، فلعلّ نجما آخر يتهيّأ الآن للصّعود ، وسيلمع ضوءه في سمائنا عمّا قريب .نحن نخشى على هذا التراث أن يندثر بعد أفول الزّعامات التي كانت تحضّ عليه، وتخلق مناسباته الحماسيّة. لقد ألفت الأذن الشّعبية سماعه، ولن يستيقظ الحماس الوطني إلاّ على إيقاعه ، فهو الوحيد الذي يدفع الدّماء في العروق حارّة متدفّقة، ويجعل الحلوق تهتف بين كل موجة تصفيق وأخرى «لقد صرخت في عروقنا الدّماء». فكيف سنحافظ على وطننا مستقبلا إن لم نستصرخ الدّماء في العروق ، ولم نستثرها بتّصفيق كأنه الرّعد ، أو رمي الحجر على الصّفيح؟ تصوّروا لو أننا لم نصفّق طويلا هل كنّا نتخلّص من الاستعمار الفرنسي؟ هل كنّا نحقّق الجلاء العسكري؟ هل كان باستطاعة بورقيبة أن يبني دولته؟ هل كان باستطاعة الجنرال بن علي المسك بخناقنا سنين طوالا يتفرّغ فيها لقضاء حوائجه الخاصّة؟ التّصفيق هو خيمة ننصبها لتستظلّ بها مشاعر رضانا عن الذّات، ولنستحضر الفرح بخيالنا، ونوهم الخطيب وأنفسنا بأن الرّسالة وصلت وفهمناها ، وأن السعادة غمرتنا بكلامه، وفي نفس الوقت نشعر بفعل حزننا المكبوت، ويأسنا الدّفين، أننا قطيع حيوانيّ،لا فرق بينه وبين الخرفان إلا استبداله الثغاء بالتصفيق والتّهليل لمقولات» الفحل» الطّاغية. يروي المؤرّخ أحمد ابن أبي الضّياف أنه زار فرنسا عام 1846 ضمن حاشية أحمد باشا باي تونس ، وحضر معه عرضا مسرحيّا بدعوة من ملك فرنسا، وسجّل في كتابه استحسان الملك الفرنسي للمسرحية وعلّق على تصفيقه لبطلتها بالقول: «وتلك علامة الاستحسان عندهم»، مما يدلّ على أنّ أهل تونس كانوا يجهلون التصفيق حتى ذلك العهد، أي لم يكونوا قبل ذلك شعبا يصفّق، وحتى بعد تعوّدهم عليه إثر دخول فرنسا ظلّوا يستعملونه باحتشام واقتصاد، إلى أن حلّ القرن العشرون وظهر الزّعماء الوطنيّون من أمثال باش حانبة والثعالبي وجماعة الشباب التونسي، ومن جاء بعدهم. ومن يومها ظلّوا يصفّقون لكلّ من هبّ ودبّ إلى الآن. لقد أحصيت عام 2009 سواء بالحضور أو بالمشاهدة التلفزيّة خمسين مناسبة تصفيقية حارّة حادّة مزلزلة، من تلك التي تتقطّع فيها الأكفّ، وتدمى الأصابع، ولكنني أعجب اليوم أن قد مضى ثلث العام ولم أحضر مثيلا لتلك المناسبات. فأين ذهب الشعب المصفّق، وما الذي أنساه رياضته المفضّلة؟ إنّي أنبّهه إلى وجوب الاستعداد منذ الآن لإحياء هذا التّراث المجيد من الانقراض، خاصة والانتخابات على الأبواب، والزّعماء الجدد بدءوا «يتديّكون» ويستعدّون لدخول الرّكح. فميّزوا يا أهل تونس بينهم ، افحصوهم جيّدا ولا تمضوا الصّكوك على بياض لأيّ كان.