إن المنشور الأخير عدد خمسة لسنة ألفين وأحد عشر الصادر في ثمانية مارس لسنة ألفين واحد عشر حول البرنامج الوطني للتكوين المستمر والذي يدعو أساتذة الفرنسية في الإعدادي والثانوي غير المختصين وكذلك الذين لهم شهادة جامعية دون الأستاذية لأنشطة حول دعم قدراتهم في استعمال اللغة شفويا وكتابيا يعد صفعة جديدة في وجه المربين في نظرنا أشد في وطأة من تلك التي تلقوها أثناء لقاء وزير التربية الحالي مع بعض التلاميذ الذين اتهموا مدرسيهم بالجشع وبعدم الوعي وبالتخلف وبضعف المستوى، اتهامات تضع في الميزان مصداقية عمل المتفقدين الذين أشرفوا على تكوين ثم ترسيم هؤلاء ويشكك أيضا في مصداقية الشهائد الجامعية التي أشرف السيد الطيب البكوش على جزء منها طيلة عقود من الزمن عند مباشرته للتدريس بالتعليم العالي. إن المنشور المذكور أعلاه يحمل في طياته العديد من التناقضات يمكن تلخيصها في ما يلي: إن الأساتذة غير المختصين وكذلك الذين لهم شهادة جامعية دون الأستاذية هم من الصنف الذين ينتمون إلى نظام ما قبل شهادة الكفاءة المهنية الذي اعتمده النظام السابق منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي بحيث أن جل هؤلاء المربين قد أشرفوا الآن على التقاعد بعدما أسهموا في تكوين أجيال من الإطارات العليا تقود البلاد في الوقت الراهن باقتدار وكفاءات عالية، فهل يعقل أن نرجع هؤلاء المدرسين من أصحاب الخبرة الطويلة الى مقاعد الدراسة لتعليمهم النطق والكتابة من جديد، فمسكين أنت أيها المربي الكريم، مقدور عليك أن تظل أضحوكة قبل الثورة. أين أنت إذا من قول الشاعر «قم للمعلم ووفّه التبجيل كاد المعلم أن يكون رسولا» إن تقسيم نظام التعليم الثانوي السابق إلى التعليم الأساسي مرحلة ثانية والتعليم الثانوي وما تبع ذلك من تصنيفات للمدرسين حسب مستويات التدريس، برز هذا أيضا في التعليم الثانوي بين أساتذة الباكالوريا وبقية مدرسي المستويات الأخرى بإيعاز تارة من بعض المتفقدين وتارة أخرى بقرار من المديرين الذين يعدون الموازنات دون استشارة زملائهم والأخذ برغباتهم. إن هذا التقسيم الاعتباطي قد أضر فعلا بالمستوى المعرفي لبعض المدرسين، فالمسؤولية لا تلقى على عاتق المربي الذي عاش سنين طوالا بين الحل والترحال متنقلا في الحر والقر من قرية نائية إلى أخرى بعيدا عن الأهل والخلان، ويلهث وراء نقلة علها توفر له نوعا من الاستقرار والسكينة وتمكنه من تطوير قدراته العلمية والإبداعية كي لا يغدو أضحوكة للآخرين. إن إصرار النظام البائد على أن لا يستمع إلا لصوته المجافي للحقائق باعتماده على مناهج مملاة من الخارج مقابل بعض الدريهمات تذهب في الغالب إلى مغارات علي بابا في قصور بن علي والأربعين حرامي من أفراد عائلته وأصهاره وبطانته الفاسدة، أضر بجودة التعليم وأوصله إلى أزمة عميقة وحادة مست المعلم والمتعلم على حد سواء. يقودنا هذا الطرح في الأخير لتناول مسألة التسيير الإداري بالمؤسسات التربوية والمندوبيات الجهوية للتعليم في تونس ما بعد الثورة، مشروع يجب أن يقوم وفق تصورنا على قواعد واضحة من العدالة والحرية والديمقراطية في ظل نظام تمثيلي ديمقراطي يعنى باختيار المسؤولين الإداريين عبر آلية الانتخاب للقطع نهائيا مع سياسات الإقصاء والولاء والمحسوبية والرشوة التي طغت الإدارة التونسية منذ فجر الاستقلال إن تولي وجه نقابي كبير وشخصية وطنية نعتز بنضالها ضد استبداد بورقبية وقهر الرئيس المخلوع جعلنا نفرح في البداية، حيث ظننا أن المشاكل التي يعاني منها المربون ستجد بسرعة طريقها للانفراج السريع بالرغم للصبغة الانتقالية للحكومة الحالية، إلا أننا صدما بالتباطؤ في اتخاذ المبادرات ثم بإعادة صياغة نفس أساليب الوزارات السابقة اتضح لنا ذلك جليا بالتغاضي عن الأبعاد الحقيقية للمناشير الصادرة في عهد الوزير الأسبق والمتعلقة بضبط مقاييس تعيين النظار والمديرين والتي وضعت سابقا قصد إبعاد من تقدم لخطة مدير مدرسة إعدادية أو معهد ثانوي والمعروف بسجله النضالي المعارض للنظام القائم، ومورس عليه الإرهاب الفكري كما خضع لمضايقات خانقة كادت تقطع الأرزاق وتذهب بالأرواح. في هذا السياق لا بد من التذكير بالطرق الملتوية لوزراء الحكومات السابقة لعل أبرزها ما عمد له الوزير الأسبق سنة ألفين وستة من تأجيل للتصريح بنتائج حركة المديرين إلى بداية شهر سبتمبر عوضا عن منتصف شهر جويلية كما جرت العادة كل سنة وذلك للتمهيد من أجل إصدار الأمر عدد ألف ومائتين وسبعة وخمسين لسنة ألفين وسبع بغية قطع الطريق عن أصحاب الشهادة الجامعية دون الأستاذية من التمتع بإحدى الخطتين السالف ذكرهما علما وأن المقاييس الملغاة كانت تعطي الفرصة لكل مدرس يحمل شهادة جامعية دون الأستاذية من أن يصبح ناظرا أومديرا، لذا فانه من العدل أن يتم إلغاء العمل بمقتضيات هذا المنشور الذي لا يتمتع بصبغة القانون والرجوع بالنظام الذي سبقه لما فيه من الإنصاف والمعقولية للإعداد لحركة المديرين القادمة، فإذا كانت خطة ناظر أو مدير تستوجب كل تلك المقاييس الانتقائية والاقصائية فمن باب أولى وأحرى أن يشترط القانون الانتخابي الجديد على المترشحين لعضوية المجلس التأسيسي أو لرئاسة الجمهورية الحصول على شهادة الدكتوراه في القانون. فهل الأحزاب السياسية وبقية مؤسسات المجتمع المدني بذلك . لذلك فنحن ندعو كل من الوزارة والنقابة الرجوع الى مقاييس مل قبل سنة الفين وسبع لأنها لا تشترط سوى الترسيم وخبرة خمس سنوات في التدريس مع الحصول على عدد بيداغوجي يساوي أو يفوق ثلاثة عشر من عشرين للتمتع بخطة ناظر أو مدير، إذ ليس من العدل أن تتم إعادة إقصاء من اقصي زمن الدكتاتورية باعتماد حجج واهية تعمق الظلم وتزيد من القهر لهذه الأسباب نرى أن الحل الأمثل لبناء مؤسسة تربوية متحررة وديمقراطية هو أن يعم مبدأ الانتخاب كافة المؤسسات التربوية من المدارس الابتدائية إلى المعاهد الثانوية أسوة بالتعليم العالي وتمشيا مع ما شهدته في الآونة الأخيرة بعض معاهد نابل وقرطاج وصفاقس من انتخابات مديرين جدد أشرفت النقابة الوطنية للتعليم الثانوي علي مجرياتها وباركتها بالرغم من حصول بعض الاشكاليات كالتي برزت في تجربة إحدى المعاهد الثانوية بصفاقس حيث منع التلاميذ من المشاركة في الانتخابات نتيجة إصرار الإدارة وبعض الأساتذة على إقصائهم بالرغم من النضج والوعي الذي أظهروه عند تكريمهم للمدير المغادر وإنهائهم لخلاف أحدث شرخا عميقا داخل المعهد، فهل يجوز بعد اليوم أن نقلل من شأن أبنائنا التلاميذ ولا نجعلهم طرفا فاعلا في الخيارات المستقبلية لمؤسساتهم التربوية من مثل هذه التجارب الحديثة يبدأ بناء الصرح الديمقراطي لتونس الغد عبر إرساء تقاليد جديدة في الاختيار الحر والشفاف للمسؤولين يتربى عليها المواطن التونسي منذ نعومة إظفاره، لهذا فنحن ندعو كل من النقابة الأساسية للتعليم الثانوي ووزارة التربية أن يدرجا مبدأ انتخاب المسؤولين الإداريين بالمؤسسات الإدارية ضمن القانون الأساسي للتعليم باعتماد مقاييس منصفة تجعل بلادنا رائدة بتجربة فريدة لم يشهدها العالم المتحضر بعد. بقلم عبد الجليل الفخفاخ (أستاذ فرنسية صفاقس)