بعد ثورتنا المجيدة، لم أنقطع يوما عن شراء جريدة ومتابعة الاعلام التونسي ولكنني مرة أخرى أفقد ثقتي في الصحافة المكتوبة خاصة وأجد نفسي مأزوما من درجة الحرفية المتواضعة التي لا تزال عليها هاته السلطة الرابعة التي كانت في ما مضى تمجد بن علي وأتباعه وتهلّل لزياراته وتخصّص صفحاتها لتحليل مضامين خطاباته معنونة كل أفكاره ومحتوياته بالثورية. وقد كنت أستغرب كيف يستطيع الصحفي النزيه أن يكتب كل تلك الصفحات التي تمجد الرئيس وتثني على قراراته وكيف يشكر في كتاباته ما يذمّه في داخله. فرغم أن كل الشعب كان يشارك الرئيس فساده ويدعمه بصمته إلا أنّ اللوم الأكبر لا بدّ أن يمسّ رجل الكلمة الصحفي والاعلامي باعتباره أكثر قربا وأكبر دراية من العالم السياسي والسلطة وباعتباره سلطة رابعة قادرة على نقد الشأن الوطني واظهار الباطل وإعلاء الحق. ولأن دولتنا كانت غارقة من شعبها ومثقفيها الى إعلامها وصحفييها في الصمت والمباركة لسلطة مستبّدة لم نحاسب رجال الاعلام على دعمهم اللاّمشروط للحكم ولم نلمهم على كتاباتهم المضربة في النفاق والمملوءة كذبا، ولكن اليوم وبعد ثورة الشعب المظلوم، تلك الثورة التي أوجدها شباب من كل الجهات دون دعم من الصحافة ولا من رجال الثقافة. نجد الصحف المكتوبة اليوم يحتكرها رجال الثقافة والاعلام وكأنهم أوصياء على الثورة أو كأنهم هم من دفعوا أرواحهم مقابل كلمة حق قالوها أو مقابل كشفهم لحقيقة المخلوع والتي كانوا عارفين بها ولكنهم حجبوها. اليوم وبعد خروج المستبّد وأتباعه تظهر أقلاما لأبطال من ورق لتكتب وتسرد وقائعا في الظلم والاستبداد وروايات عن التسلط والنهب كان يمارسها النظام السابق وكان يعرفها كل رجالات الاعلام ولكنهم صمتوا عنها بل وباركها العديد منهم. اليوم وبعد أن أشرقت شمس الحق وغاب ظلام الباطل وكشف القناع عن سلطة فرعون المشؤوم وظلم شهريار وشهرزاد وقمعهم للعباد. نجد رجال الاعلام سبّاقون لادّعاء البطولة وركوب الأحداث حتى أنهم لازالوا يملؤون الصفحات ببطولاتهم وأخبارهم وأسرار الدولة الزائلة ونجدهم يحتكرون الكلام في جرائدهم ولا يتركون الشباب المثقف الذي قام بالثورة يتكلّم لا يتركون لشباب المناطق الداخلية صفحات ليحرّر.. وأعمدة ليعبّر عن رأيه ويسهم في بناء تونس الغد تونس الجمهورية وكأنّه لا يمكن أن يكتب سوى الأستاذ لدى محكمة التعقيب والأستاذ لدى... والأستاذ... وكأنه لا يمكن أن يحرّر مقالا سوى القاضي... والقاضي... ثم القاضي وكأن الجرائد خلقت ليكتب فيها رجال القانون والصحافة وكأن البناء لا يسهم فيه سوى رجال القانون واللجان لا يشكلها ولا تتكون إلاّ برجال القانون وكأن تونس لا تحتوي سوى ثقافة القانون لا ثقافة الفكر والعلم وثقافة المجتمع البسيط الموجود في داخل تونس ووراء ستار الاعلام المنحاز مرة أخرى لشريحة معينة. أيهاالاعلاميون... أنتم مرة أخرى منحازون، تضيقون الخناق على حركة الأفكار وللآراء تكبتون، تنشرون ما تريدون وتعتّمون على الأفكار التي لا تريدون، تفتحون أبواب جرائدتكم لمن تشاؤون والآراء التي لا تعجبهم أنتم لها رافضون. أخبروني أرجوكم إن كنت قد أخطأت في حقكم فأجيبوني إن كنتم خرجتم الى سليانة وعاينتم تونس المريضة وكتبتم عن مناطق الظل في ريفها، إن كنتم حاورتم ضعاف الحال من شعبها وصورتم ألمهم وحاجتهم وعاينتم مساوئهم ونشرتموها وأخبروني إن زرتم القصرين وسيدي بوزيد وشاهدتم جراح الشعب وتركتم هذا الشعب المستضعف المستعبد يتحدث في صفحات جرائدتكم. إن كنتم قد فعلتم فأنا مخطئ في حقكم وأرجو المعذرة وانشروا مقالي وارفقوه بردّ قاس منكم على افترائي وادّعائي. وإن كنتم لم تنجزوا واجبكم ولم تسمعوا صوت المستضعفين ولم تكتبوا مقالات الغائبين ولم تنشروا كلمات شباب هذه المناطق فاعتذروا ولا تتأخروا في نشر اعتذاركم على صمتكم في الماضي وتجاهلكم لشعبنا في الحاضر. اعتذروا ، فأكمل صفات الانسان أن يعتذر على خطئه ويبدأ التصحيح، والاعتذار أول خطوات الاصلاح. أما النرجسية والدفاع عن الخطإ وتبريره فتلك مصيبة كبرى لا تنجي من المهالك وأن تواصلوا في تغطيتكم السلبية للأحداث وأن تعمدوا الى الحديث بصفة المجهول في أخباركم (كأن تقول رئيس جمعية كبرى كاتب عام حزب في العاصمة). وأن تواصلوا التعامل بسطحية سلبية مع الأحداث ولا تخرجوا للميدان لمعاينة الأحداث وتبعاتها فلن نستفيد من إعلامكم ولن تقوموا برسالتكم ولن تحفظوا سلطتكم. ولأننا نعرف قيمة دوركم وريادة قولكم فنحن ندعوكم كي تكونوا فاعلين وتلعبون دوركم بالموضوعية المطلوبة والحياد التام. كما ندعوكم كي تفتحوا صدوركم للشباب ولمواطني المناطق الداخلية كي يكتبوا على صفحات جرائدكم حتى يعبّروا عن رأيهم ومشاغلهم فهم أصدق من يعبر عنها وهم محتاجون للفضفضة وإفراغ صدورهم من آلامها وقلوبهم من كربها وعقولهم من سجنها.