ظل التونسيون يرددون نشيدا لا يكادون يعرفون كاتبه أو ملحنه وذلك طيلة أيام الكفاح التحريري ضد المستعمر الفرنسي، وقد أصبح يعرف فيما بعد بنشيد الثورة ومطلعه: حُماة الحِمَى يا حُماة الحِمَى هلموا هلموا لِمجد الزمنْ لقد صرخت في العروق الدما «نموت نموت ويحيا الوطنْ» وقد عرفنا، في ما بعد، أنه من تأليف مصطفى صادق الرافعي، الذي عرفناه كاتبا أكثر مما عرفناه شاعرا، وقد ظل التونسيون يرددونه كاملا طوال أيام الكفاح التحريري، ثم اقتصروا على مطلعه وأضافوا في آخره البيتين الأولين من قصيدة «إرادة الحياة» لأبي القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدرْ ولا بد لليل أن يَنجلي ولا بد للقيد أن ينكسرْ وقد ارتكبوا في ذلك النشيد المصري أخطاء عروضية مثل: «لقد صرخت في عروقنا الدماء» والأصل الصحيح الذي يقتضيه الوزن: «لقد صرخت في العروق الدماء»، واضطرهم إبدال اسم مصر في قوله: «إلى عزِّ مصر إلى مجدها» باسم تونس إلى تسكين سين تونس للوزن ولا يجوز تسكين أواخر الأسماء كما هو معلوم، وقد غيروا في هذا النشيد بعض كلماته تغييرا عشوائيا لا معنى له وذلك في البيت التالي: ورثنا سواعدَ باني الهرمْ صخورا صخورا كهذا البِناءْ والمعنى جميل وواضح، أما التحوير الذي قام به التونسيون فلا يعطي له أي معنى: ورثنا السواعدَ بين الأممْ صخورا صخورا كهذا البِناءْ فقد أصبح معناه أننا ورثنا السواعد وحدنا دون جميع الأمم، فكل الأمم ليست لها سواعد، أما نحن فقد ورثناها وحدنا دون سوانا، وهذه السواعد قوية جدا فهي صخور صخور مثل «هذا البناء»، واسم الإشارة هنا لا يشير إلى شيء مذكور في البيت، بينما كان الشاعر يشير إلى «صخور الهرم» الأكبر الذي ما زال يعد أحد عجائب الدنيا السبع. وبمجرد استقلال تونس وانتقالها من الملكية إلى الجمهورية، سعى الزعيم الحبيب بورقيبة إلى وضع نشيد رسمي تونسي صميم شعرا ولحنا، فأقيمت أولا مسابقة بين الشعراء التونسيين فاز فيها الشاعر جلال الدين النقاش بالكلمات، ثم أجريت مسابقة ثانية بين الملحنين فاز فيها الموسيقار صالح المهدي الملقب بزرياب بلحن هذا النشيد الذي أصبح نشيدا رسميا تُفتتَحُ وتختتَمُ به الإذاعة ثم التلفزة طيلة أيام رئاسته، ومطلعه: ألا خلدي يا دمانا الغوالي جهادَ الوطنْ لتحرير خضرائنا لا نبالي بأقسَى المِحنْ نخوض اللهيبْ بروح الحبيبْ زعيم الوطنْ وقد كان في الأصل: «بظل الحبيب» فغيّره بورقيبة، منبِّهًا إلى أن «ظله» سيزول بوفاته، لكن «روحه» ستبقى بأعماله التي قام بها قبل الاستقلال وبعده، ولكن هذا النشيد ظل مهددا بالزوال لشيوع نشيد الثورة على ألسنة المعارضين، نظرا لطول مدة حكمه وعدم تمكنه من الاستجابة لمطالب الشعب بجميع فئاته، كثرت المعارضة وظل الدعاة للتظاهر ضد نظامه ينشدونه حتى كاد يصبح النشيد الرسمي للمعارضين ولم تستطع السلط أن تسكتهم أو تمنعهم من إنشاده، لذلك تبناه القائمون بانقلاب 7 نوفمبر 1987 بأخطائه التي أشرنا إلى بعضها، وذلك لكي لا يتركوا للمعارضين نشيدا متغلغلا في أعماق الشعب، وهكذا افتكوه من أفواههم، ولم يسعوا إلى وضع نشيد جديد ضاربين عرض الحائط برغبة كثير من الشعراء والموسيقيين بإنشاء نشيد جديد تونسي شعرا ولحنا. وأود أن أتساءل أخيرا: «لو خلا هذا النشيد من اسم «الحبيب» أ كان القائمون بانقلاب 7 نوفمبر 1987 يُبقون عليه أم أنهم سيزيلونه مهما كان محتواه لأنه يمثل عهدا معلوما؟ وبالمناسبة أتساءل: لو أن النشيد الليبي الذي ألفه البشير العريبي ولحنه محمد عبد الوهاب، والذي جاء فيه: (حيِّ «إدريس» سليل الفاتحينْ / إنه في ليبيا رمزُ الجهادْ / حمل الراية فينا باليمينْ / وتَبِعناه لتحرير البلادْ / فانثنى بالمُلكِ والفتح المبينْ). أقول: «لو أن هذا النشيد كان خاليا من اسم «إدريس» ملك ليبيا، أ كانت ثورة 1 سبتمبر 1969 ستبقيه أم تعوضه بذلك النشيد المستورد من مصر والذي مطلعه: «الله أكبر فوق كيد المعتدي» والذي ألفه الشاعر «محمد شمس الدين» فيما أذكر أيام الاعتداء الثلاثي على «أرض الكنانة» إثر تأميم عبد الناصر لقنال السويس صيف سنة 1956 وهو نشيد لا يشتمل على مكونات الأناشيد الرسمية. ومعلوم أن إقحام اسميْ حاكميْ تونس وليبيا، في النشيدين المذكورين حسب المواصفات التي وضعها المعلنون عن المسابقتين المذكورتين كان سببا في إلغائهما فور الانقلابين اللذين وقعا في القطرين الشقيقين، فقد كانا يحملان شهادة موتهما ضمن شهادة ميلادهما، ولو وقع الاكتفاء بالتغني، في الأول، بتونس، وفي الثاني بليبيا فقط لا غير، لكان في الإمكان أن يستمرا في الحياة، وإن كان الانقلاب على كل شيء في الانقلابات واردا أو راجحا أو حتميًّا، ولهذا يجب أن يتخلى الحكام، في مثل هذا المقام، عن أنانيتهم في مستقبل الأيام.