يصعب على أيّ كان الادعاء بأنّه يعرف ماذا يريد الشعب ما لم يستطلع رأيه وما لم يسأله عمّا يريد. وعلى الرغم من ذلك فالشعب هو نحن جميعًا، ويكفي أن ينصت بعضنا إلى بعض في الحقول والإدارات، في الشوارع والبيوت، في القرى والمدن، كي نرجّح دون شكّ أنّ الشعب يريد أن يرى ثورته تنجح، لذلك هو يريد الانتخابات في أسرع وقت. والمرجّح أيضًا، اعتمادًا على ذكاء ثورته، أنّ شعبنا لا يريد انتخابات مرتجلة، شكليّة، مزوّرة، أي لا يريد روبافيكيا انتخابات مستخرجة من صناديق الملابس الانتخابيّة السابقة التي زيّفت إرادته على امتداد عقود. كيف يمكن التوفيق إذنْ بين مطلب إجراء الانتخابات في أسرع وقت ومطلب إجرائها بأكثر ما يمكن من شروط النجاح؟ الإجابة واضحة: محو أسباب التناقض بين المطلبين لنزع فتيل الأزمة. أي نزع القداسة عن تاريخ 24 جويلية وعن تاريخ 16 أكتوبر. فلا الأوّل معقول ولا الثاني مُرسَل. وفي وسع الجميع الاتّفاق على التاريخ الأفضل. وهو ما لم يحصل حتّى كتابة هذه السطور. وكم أتمنّى أن يحصل حتى لو نتج عن ذلك أن يجد النصّ نفسه في التسلّل! اتّفاق (أو وفاق) يحتاج إلى بناء الثقة بين الأطراف السياسيّة كي تستعيد ثقة شعبها فيها. فثمّة الآن فائض من التهم المتبادلة والريبة والحديث عن الابتزاز والمساومة في مقابل الحديث عن الزور والتزوير، والكلّ يشكّك في الكلّ ويغذّي نظريّة المؤامرة في شأن الكلّ، ولا أحد بمنأى عن التبعات. على الجميع أن يتخلّى عن زهرة النرجس القديمة وأن يخرج من ذهنيّة الواحد الأحد وأن يتحلّى بنصيب أكبر من التواضع للاعتراف بأنّ الحقيقة مشتركة وأنّ الحقّ لم يعد حكرًا على أحد دون الآخر. اللجنة العليا المستقلّة للانتخابات على حقّ حين تشير إلى تعذّر العمل بالتاريخ الأوّل، والأطراف الأخرى على حقّ أيضًا حين ترى أنّ من الممكن عدم التوسّع في الإرجاء، وأنّ من الضروريّ وضع ضمانات ضدّ إعادة الإرجاء. الثقة المطلوبة ليست ثقة عمياء طبعًا. بل يجب أن تُبنى على الفهم العميق للخلفيّات الممكنة. وهي تتطلّب السؤال بعيدًا عن المعلن والظاهر، لماذا يبدو البعض حريصًا على إجراء الانتخابات أكثر من غيره، أو داعيًا إلى التريّث، ولماذا يبدو البعض زاهدًا في هذه الانتخابات؟ هنا نحن أمام ثلاثة مواقف: البعض الأوّل يدافع عن التريّث وهو على قسمين: قسم يريد انتخابات تتحلّى بأكبر قدر من شروط المصداقيّة والشفافيّة. لذلك هو حريص على إجرائها لكنّه يدعو إلى توفير الشروط الموضوعيّة المناسبة لنجاحها. وقسم يريد التريّث ريثما يضمن لنفسه، هو، شروط النجاح! البعض الثاني يريد الانتخابات فورًا. وهو على قسمين: قسم يرى هذه الانتخابات ضروريّةً للخروج بالبلاد ممّا يتهدّدها أمنيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا. وقسم يرى فيها فرصته اليوم وليس غدًا، لأنّه واثق أو يتوهّم أنّه الأوفر حظًّا في الفوز بها! أمّا البعض الثالث فهو يريد إرجاء هذه الانتخابات إلى أجل أبعد حتى من 16 أكتوبر. وهو أيضًا على قسمين: قسم يرى استحالة الاقتراع الواعي في مثل هذا الوقت. وقسم يريد أن يستمرّ في الغناء وجناحه يردّ عليه، لأنّها فرصته لادّعاء ما يريد وللحصول على أكثر ما يمكن! لكلّ من هذه المواقف نصيبه من الوجاهة ولكلّ منها نصيب من الجانب المعتم المضمر. وهو تداخلٌ طبيعيّ في كلّ ما يتعلّق بسلوك البشر. ولن يستغرب هذا الوضع إلاّ من يتوهّم أنّه أمام ملائكة يعيشون في عالم طوباويّ! إلاّ أنّ من شروط التعايش البشريّ، وفي مثل هذه المرحلة تحديدًا، تغليب الجانب المضيء على الجانب المعتم. ومن الضروريّ هنا بناء الثقة على أساس هذه الذهنيّة الجديدة، ذهنيّة الاعتراف بحقّ الآخر في الاختلاف، بعيدًا عن لعبة ليّ الذراع التي كثيرًا ما تفضي إلى محنة عضّ الأصابع. الشهداء لم يُحاكَم قتلَتُهم بعد، وضحايا التعذيب والسجن والمنفى لم يُعْتَقَلْ جلاّدوهم بعد، والمنهوبون الذين سُرقت ثرواتهم وأعمارهم وأحلامُهُم لم يُحاسَبْ سارقوهم بعد، والعاطلون عن العمل والمحرومون والمُهمّشون يزدادون عددًا، والملايين من المواطنين يتحرّقون شوقًا إلى خيارات جوهريّة تضع حياتهم في طريق الحرية والكرامة والحداثة. هؤلاء هم الشعب. وهم يعرفون أنّ علاج مشاكلهم يتطلّب وقتًا ولا يمكن أن يتمّ بضربة عصًا سحريّة، لكنّهم يشعرون بأنّهم مستبعدون عن كلّ قرار ويحسّون بأنّ المرجأ والمؤقّت يتمطّط ويدوم في ظلّ غياب البرامج والرؤى والمضامين، وفي ظلّ طغيان الخصومات السياسواتيّة. في مثل هذه الظروف الحسّاسة، يصبح بناء الثقة بين السياسيّين مطلبًا حيويًّا وحياتيًّا، خدمةً لمصلحة الوطن العليا، وإنقاذًا للنخبة السياسيّة، وللعبة السياسيّة تحديدًا، كي لا تفقد السياسةُ ثقةَ الشعب نهائيًّا.