قبيل ثلاثة أيام من ذكرى مجازر «صبرا» و»شاتيلا» التي أشرف عليها أرييل شارون، ينبري السفاح من جديد يهدّد ويتوعّد عرفات بمصير مماثل «للشيخ ياسين» و»الرّنتيسي». يقول «شارون» ما يقول، ولا أحد في هذا العالم، مؤسسات وهيئات وشخصيات، قادر على إعلاء صوت القانون وتطبيقه على هذا الذي يسمح له بالعربدة وبقتل الفلسطينيين مع أنه يأتي الجرم ويتباهى بالجريمة. هنا يحصل أن يصاب المرء بالعجب. ويحصل أن يعلن الانسان عن استغرابه تجاه شارون، الذي من المفروض أنه تعرض إلى محاكمة كمجرم حرب منذ 1982 . لكن ما يزيد من حدّة الاستغراب، هو إعلانه، وهو «رئيس وزراء» يفرش أمامه السجاد الأحمر ويصافحه رؤساء دول ومسؤولون سامون، بأنه صفّى «الشيخ ياسين» المقعد والدكتور الرنتيسي الذي لا يحمل سلاحا ودون عقاب. هذا هو عصر المتناقضات بعينه... وهذا هو عهد النفاق الدولي بامتياز. ففي فلسطينالمحتلة عصابة لا تؤمن بالقانون ولا بالشرعية ولا بحقوق الانسان تجرف الأراضي وتقتلعها من جذورها تماما كما تفعل مع بني الانسان في فلسطين، بلا رادع ولا قصاص. هذا الكيان الاستعماري تسانده قوة عظمى، لو التفتت إلى نوعية باب بيتها الزجاجي لما تجرأت يوما على الآخرين وقذفت أبوابهم بالحجارة... رغم ذلك لا نجد صوتا مدويا وعادلا يقول إن في الأمر جريمة ضدّ الانسانية، فكيف يسمح لمجرم حرب وقاتل، باعترافه الشخصي، أن يعتلي كرسي الحكم ويحوز مكانا في المنتظم الأممي؟ هذا هو المنطق الجديد السائد في عالم اليوم. المفاهيم مقلوبة وصاحب الحق أضحى في عداد المعتدين والمجرم تحوّل إلى معتدى عليه. وإلا كيف يتجرأ شارون الذي تحتّل قواته فلسطين أن يتطاول على صاحب الأرض الأصلي سواء كان عرفات أو أي مواطن فلسطيني آخر، في حين يتعرّض الفلسطينيون إلى سياسة عقاب جماعية، تقترفها كل المجموعة الدولية في حقهم؟ صحيح ان الظلم في فلسطين بلغ مداه، غير أن الحديث الآن أضحى يتجاوز الظلم ليهمّ تبرير الجريمة المنظمة تلك التي كشف عن اقترافه لجزء منها، رئيس الوزراء الاسرائيلي أمس حين توعد عرفات بطرده من أرضه فلسطين. والحقيقة هناك توجه نلمسه في «تل أبيب» ككيان، وفي «واشنطن» كامبراطورية، مفاده ان العيش «للأقوياء» الآن وليس للمستقيمين. فقد يكون نظام سياسي هنا أو هناك، في آخر بقعة من الأرض، يعيش في تناغم مع شعبه، يرسم وإياه مستقبلا للوطن وللإنسان فيه الكثير من التوازن والحكمة، لكن هذا التوجه لذاك النظام لا يحلو لحكام العالم اليوم، بمجرد أن يكون للبلد المعني مشروع مغاير لأهداف الكبير، فإذا بالمجنزرات والصواريخ والدبابات تخرج من جحورها تضرب ذات البلد وتبيد سكانه من أجل هدف مادّي ومصلحي يهم القوة المعتدية. عندها لا يهم الكلام الصحيح عن الديمقراطية الصحيحة، بل كلّ الهمّ يكون منصبّا على مصلحة الآلة الاستعمارية فحسب. هذا ما يحصل في فلسطين وفي العراق. غير ان شارون الذي يتوعد وأمثاله ممن أخذهم جنون العظمة، تناسوا أن هذا التخطيط يبقى أحاديا، وأن كل استراتيجيا لابد لها من رؤيتين متصارعتين حتى ترى النور أو يرى النور المشروع المضاد لها. يبقى هنا الخاسر الأكبر هو تلك المنظومة الدولية التي بناها المجتمع الدولي وهو ينشد الاستقرار والسّلم والأمن في العالم، في حين جيّرها، وفي واضحة النهار، أولئك الأقوياء بالآلة الحربية فحسب. المنظومة الدولية هي الخاسر الأكبر، لأنها أضاعت مبادئ كالصغار ولم تحافظ عليها محافظة الكبار، فهي ترصد السفاح يتوعد بمزيد القتل، ولا تقدر على مواجهته أو صدّه عن غيّه.