تعدّدت اللجان هذه الأيام فأصبحت تلد بعضها البعض وتتكاثر، ولم يعد للمواطن البسيط من جهد لالتقاط أنفاسه حتى تدركه لجنة من هذه اللجان فترديه صريعا. يظل المسكين طريح الفراش لأسابيع يعاني من هضم المفردات الواردة في اسم هذه اللجنة أو تلك وفكّ رموزها والتعمّق في أهدافها وهي التي لا يقدر على كنهها حتى الموغلون في علم السياسة والقانون وجهابذة اللغة. ولا يكاد يستفيق من هول الفاجعة الأولى حتى تفاجئه أخرى وهكذا.. والشأن كذلك بالنسبة الى الأحزاب فهي تتناسل مثل الجراد لا تفرق بينها إلا بعض الفواصل الدقيقة ويولد غالبا بعضها مع بعض في يوم واحد فلا تملك أن تفرق بين ذكرها وأنثاها إلا بالنظر مليا في العمق لتكشف عن برامجها وأدبياتها المتشابهة والمكررة حدّ التطابق، وليتك تقدر، أو عندما توضع النقاط على الحروف فتجد لك على سبيل المثال، تونس الترقية وتونس الترفيه ولولا التنقيط لما أفلحت في التمييز بينها مهما حرصت أو اللخبطة في الأسماء فتقرأ هنا تونس الحرية. وهناك حرية تونس، هكذا يغير المؤسسون العناوين أو يبعثرونها فقط للحصول على التأشيرة لا غير. قال الخبراء في علم الأحزاب واللجان أنها ظاهرة صحية لابدّ منها أن تتناسل الأحزاب على هذه الشاكلة وتتعدد على غرار بيض الناموس فهذا أمر مطلوب حسب طرحهم بل يحمدون اللّه على أننا مازلنا ننأى ببلدنا حسب قولهم على ما حدث في اسبانيا أو البرتغال من ظاهرة تفاقم الأحزاب. فالخوف كل الخوف أن تتعدد الأحزاب وتتكاثر أفقيا وعموديا فنصبح أغنياء في عدد الأحزاب وفقراء ي المواطنين. أي بلا مواطنين أصلا تنتخبنا. وهناك مسألة أخرى يقولون إنها من شروط الديمقراطية أن تولد اللجنة وهي مكشرة عن أنيابها تقدح في شرعية اللجنة التي سبقتها والتي ستأتي بعدها. فترى أهلها يرعدون ويزبدون ويتناحرون. كيف وجدت هذه اللجنة ومن بعثها لجنة دفاع، بل يؤكد الناطق باسمها مصرّا أنه الشرعية نفسها مرددا (سلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث «حية»). وسرعان ما يُلجأ للفصول القانونية المتصدية لبعضها البعض وتنطلق الحوارات والصراعات التي لا تنتهي. سئلت يوما احدى عجائزها عن مزالي في العهد الذي سبق البائد وهي امرأة بعيدة كل البعد عن السياسة. كيف رأت الوزير الأول بعد الضجة التي حدثت له في ذلك الحين بسبب ارتفاع الخبز. والمصادمات في الشوارع والأزقة وكيف كان الناس ينادون «خبز وماء ومزالي لا» قالت بعد تفكير. كانوا يحاربونه من أجل عزله من منصب وزير واحد هو منصب الوزير الأول فأصبح الرجل بعد الضجة يشغل منصب وزيرين. الوزير الأول ووزير الداخلية، أي طالبوا برحيله فأصبح أقوى من ذي قبل.. وعظمت المصيبة. عجب الجمع من عمق قولها فهل كان الشأن كذلك بالنسبة إلينا أيضا في المرحلة الراهنة؟ هل كنا نطالب بتوفير 500 ألف موطن شغل ونطلب شيئا من الحرية والانعتاق وقد قامت الثورة في البداية من أجل ذلك فقط، فأصبحنا بكل أسف مهددين في أنفسنا ومطلوبين في توفير مليون موطن شغل وهذا يتطلب ثورة أخرى، الى جانب تفاقم البطالة في كل القطاعات الشغيلة الأخرى يوم عن يوم بما فيها حتى قطاع الوظيفة العمومية والقطاعات الحساسة الأخرى التي لم تعرف البطالة في السابق أبدا، أصبحت على العكس، مهدّدة في الحين في رواتب العاملين فيها.. ثم كيف نستعيد فوق كل هذا أهم شيء؟ الأمن.. أين الأمن والطمأنينة والاستقرار، وهل سنقتات من تفشي الفوضى وانتشار العنف والرعب والتطاول والتخريب وقطع الطريق والمطالب المجحفة والنار التي تأتي على الأخضر واليابس حتى أننا سمعنا بمن يهدد بإتلاف قوتنا من الصابة.. وماذا عن «ديقاج».. «ديقاج» هذه الكلمة الدخيلة التي أصبحت تعيش معنا وتهدّد الجميع فهل نستقيظ يوما ونحن نقول بصوت واحد لأنفسنا (ديقاج) فنحن لسنا أهلا للثورة ولا للديمقراطية أو الحرية.. ثم ما دور الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية واللجان المتنوعة والهيئات المتناثرة وغيرها من الجمعيات إذا لم تؤطر المجتمع وتكثف من جهودها للعمل على خلق المناخ السليم مهما كان عصيا من أجل تحقيق العيش الكريم في ظلّ الأمن، ان مطلبنا العاجل هو الأمن وكفى. أما عن انتخاب المجلس التأسيسي وموعده. فعلينا أن نلتزم بقواعد اللعبة الديمقراطية ونؤسس لبناء دولة شرعية قوية نحن بحاجة الى مثلها في الابان بدلا من الاستمرار في الحديث عن تأجيل الانتخابات في مسلسل قد لا ينتهي أبدا.. لنصيغ في ما بعد دستورا على مهلنا ولو مكثنا فترة.. أعتقد لا محالة أن هذا الأمر سيثير حفيظة البعض من اللجان خصوصا الأحزاب. ولكن عن أي حزب أو لجنة نتحدث إذا كان دور أغلبها في الحقيقة غائبا وتأثير معظمها في المجتمع مفقودا فهي مازالت تعاني من الوقوف على قدميها بثبات ووضوح.. بينما البلد معرض للخطر الداهم ولا يطلب غير الشرعية والأمان.. وعن ساحاتنا وشوارعنا الفسيحة فحدث، فهي تزخر بأطراف عفانا وعفاكم اللّه حبلى بالحجر الصوان وبيض الهند حتى خلت جبالنا من أحجارها وأسواقنا من سكاكينها وسيوفها وتمرّست البلطجية في التفنّن في قطع الطرق واستفادت من انفلات الأمن فأوغلت في النهب والاستيلاء فتفشى الاغتصاب وعمّ، حتى كاد المرء يقطع بين نفسه ومطلب الديمقراطية ويناضل، طالبا المغفرة وهو يصلي، من أجل عودة يوم من أيام الاستبداد والهيمنة. سئل أحدهم أيّهما أفضل؟ الديمقراطية في ظل الفوضى والانفلات الأمني؟ أم الأمن في غياب الحرية والديمقراطية ففضل الثانية ولعله كان على حق؟