بعد ان تخلص الهادي نويرة من الحبيب عاشور بمحاكمته من قبل محكمة أم الدولة وصدور احكام قاسية على النقابيين قام بزيارة إلى أمريكا حيث استقبل كرئيس دولة، اشعره الرئيس كارتر بوجوب ادخال نفس تحرري على البلاد فاقنع بورقيبة بوجوب اطلاق سراح الحبيب عاشور من السجن وبالفعل فبتاريخ 3 أوت 79 نقل الحبيب عاشور من السجن وأبقي قيد الاقامة الجبرية بمنزله وفي هاته الفترة كان انعقاد مؤتمر الحزب وقد اتفق الهادي نويرة وعبد الله فرحات الذي كلّف بتنظيم المؤتمر بتقليص نفوذ محمد الصيّاح. فاستعان عبد الله فرحات بالجيش لتنظيم المؤتمر واستعان كذلك بالهادي البكوش مستشار الهادي نويرة وكان قبل ذلك قد قام عبد الله فرحات الذي نصح الهادي نويرة بتعيين بن علي مديرًا للامن بالسعي لديه ايضا في جعل الهادي البكوش مستشارا سياسيا له وبهاته الصفة بدأ الهادي البكوش يعمل لاسترجاع مكانته في الحزب. وكان هذا المؤتمر الحزبي (مؤتمر 79 ) قد انتهى الى استبعاد جماعة الصياح في حين ان هذا الاخير كان الناجح الاخير في اللجنة المركزية ولذلك غضب بورقية على المنضمين إلى المؤتمر غضبا شديدا فاصدر قراره باقالة عبد الله فرحات من الحكومة منهيا بذلك حياته السياسية واما الهادي البكوش فقد ارسل قنصلا عاما بفرنسا لكنّه وجد نفسه بعد سنوات من ذلك سفيرًا لتونس. اما بن علي فقد شعر بالعزلة على رأس ادارة الامن بعد ان اخرج حاميه عبد الله فرحات وصديقه الهادي نويرة من الحكومة، ولم يلبث طويلا حتى أخرج و بدوره من الحكومة فقد جدّت بعد اشهر من ذلك اي في 26 جانفي 1980 احداث قفصة التي تمثلت في ان فريقا من التونسيين قد تدرّبوا بليبيا وسلّحهم العقيد القذافي ليدخلوا البلاد خفية ويستقروا عدّة ايام بها لاحداث اضطرابات بالبلاد وكانت إدارة الامن جاهلة لكل ما حدث مما جعل الحبيب بورقيبة ينهي مهام زين العابدين بن علي على رأس ادارة الامن ويرسله سفيرا لتونس ببولونيا حيث بقي هناك طيلة أربع سنوات لكن صديقه وقريبه كمال لطيّف كان موجودا دوما بتونس وسوف يعمل على اعادته وفي سنة 1981 اصبح محمد مزالي وزيرًا اولا وكان الوزير المقرّب منه هو المازري شقير وقد بذل كمال لطيّف كل ما في وسعه للتقرب من المازري شقير واصبح صديقا له واقرب الناس اليه حتى ان الاشاعة قد سرت بان كمال لطيّف سيتزوج ابنة المازري وكان كمال أعْزَبَ آنذاك. وقد سنحت الفرصة بعد احداث الخبز سنة 1984 فنصح المازري شقير محمد مزالي بارجاع الهادي البكوش الى تونس وتكليفه بادارة الحزب وبتكليف زين العابدين بن علي بادارة الامن، وكان ذلك بسعي دؤوب من كمال لطيف وقد عشت هاته الظروف من قرب فقد عمل محمد مزالي الوزير الاول على استمالتي كأنه رأى فيّ الشخص الذي يمكن له ان يقرّب اليه الحبيب عاشور زعيم النقابات الذي رجع الى الاتحاد العام التونسي للشغل. ❊ كيف عرفت زين العابدين بن علي؟ في شهر جوان 1983 تمّ انتخابي عميدًا للمحامين وكان وراء صعودي إلى العمادة زملائي المحامون اليساريون ثم انضم اليهم بعض المحامين العروبيين على رأسهم صديقي المرحوم العميد عبد العزيز الشابي والد صديقي احمد نجيب الشابي والاستاذ المرحوم محمد بن الناصر أحد ابطال الدفاع التونسي الى جانب صديقي وأخي المرحوم محمد محفوظ الذي كان في نفس الوقت استاذا بكلية الحقوق والذي قام برئاسة حملتي الانتخابية الى جانب صديقي المرحوم الحبيب العمري الذي كان منتميا إلى الحزب الشيوعي التونسي والمرحوم صديقي بلقاسم الشاذلي وعبد الحميد بن مصطفى وصديقي الاستاذ جمال الدين بيدة احد قيادات الحزب الشيوعي الى جانب اصدقائي من شباب اليسار والذين سجلوا صفحات ناصعة في تاريخ الدفاع التونسي وهم المناضلون المرحوم الفاضل الغدامسي وصديقي الاستاذ وصديقي الاستاذ محمد الصالح التومي وصديقي العميد عبد الستار بن موسى والاخ الصديق نورالدين الجربي والمرحوم الهاشمي بلّلّونة والمناضلة اليسارية الاخت راضية النصراوي والمناضلة اليسارية الاخت بشرى بلحاج حميدة والى جانب هؤلاء كان العميدان محمد بن للّونة ومحمد شقرون والذين اهما رحمهما اللّه في تصعيدي الى عمادة المحامين، والى جانب هؤلاء الاخوة المستقلّون عبد اللطيف بن للّونة والحاج سعيد بورقيبة ونورالدين الغزواني ومحمد بن حمّودة والهادي كرّو والمنصف الامين الفضيلي وأخي وصديقي الحبيب سلامة والذين تمّ انتخابهم باغلبية كبيرة كاعضاء بهيئة المحامين فكانوا احسن رفاق درب طيلة السنوات التي قضيناها في هيئة المحامين. وكان لاخوتي بصفاقس صديق عمري الاستاذ عبد السلام والاستاذ إلياس القرقوري والاستاذ محمد بسباس واخوتي بسوسة العميد عبد الجليل بوراوي والاستاذ حامد بن رمضان الدور الكبير في انجاحي وصعودي إلى العمادة وتبين اثر نجاحنا ان المحاماة شهدت تحولاً نوعيّا نحو استقلالية وتكريس هاته الاستقلالية. وان كان والحق يقال ان المحاماة منذ نشأتها بقيت مستقلة وحتى الدستوري الوحيد التي تمكّن من ان يصبح عميدا وهو المرحوم فتحي زهير فقد فضّل استقلالية المحاماة على انتمائه الحزبي وبعد ثلاثة ايام من نجاحي في الانتخابات اتصل بي محمد مزالي الوزير الاول ليطلب مني مقابلته وتمّت مقابلتي له بمقر الوزارة الاولى واستمرّت المقابلة نحو الساعة وقد قال لي أنّّهم اي الحكومة كانوا محايدين وانهم لم يقفوا مع منافسي الذي كانت له مع وسيلة علاقة مصاهرة وتلقيت برقية تهنئة من صديقي المرحوم الحبيب عاشور باسم الاتحاد العام التونسي للشغل وبرقية تهنئة من صديقي المرحوم محمد الشرفي باسم رابطة حقوق الانسان التي كان هو الكاتب العام لها وكان رئيسها الصديق سعد الدين الزمرلي. وفي تلك المقابلة مع محمد مزالي اتفقنا على ان تعقد معه جلسة عمل هيئة المحامين بكامل اعضائها، وبعد اسبوع تمّت هاته الجلسة فكان هو وحده من جهة وكنّا كلّنا اعضاء الهيئة بمن فينا عضوي محكمة الاستئناف بسوسة وهما الاستاذ عبد الجليل بوراوي والمرحوم عمار عمار وعضوي محكمة الاستئناف بصفاقس الاستاذ محمد بسباس والمرحوم احمد التركي وفي جوّ كبير من الحماس قطع مزالي على نفسه عهدا بالتمشي الديمقراطي والتصدّي لظاهرة التعذيب والعمل على اطلاق المزيدمن حرية الصحافة. بعد مقابلتي الاولى مع محمد مزالي خاطبني المازري شقير من الغد وقال لي ان محمد مزالي مبتهج بالمقابلة التي تمّت بيننا وانه يأسف لعدم حضورها لانه كان ببنزرت لكنه يرغب في مقابلتي وتقابلت معه ثم مع فرج الشاذلي وزير التربية الوطنية وهو شخص محترم بكلّ معاني الكلمة ومن جميع النواحي ثم قابلتهم مرة اخرى ومعهم البشير بوسلامة وكان واضحا من تصرّفات الجماعة معي ان مقصد محمد مزالي هو التقرب من صديقي المرحوم الحبيب عاشور وقد عبّر لي محمد مزالي عن ذلك بكلّ صراحة وقال لي انه يتمنّى ان يدعمه الحبيب عاشور مثلما دعم الهادي نويرة في أوّل عهده. واستمرت علاقة الصداقة بيني وبين محمد مزالي طيّبة من تاريخ انتخابي للعمادة لم تنقطع الا بعد ذلك سنة 1985 عندما هاجم جمعية القضاة الشبان هجمة شرسة ولم يقبل منّى وقوفي الى جانبهم وتضامني انا هيئة المحامين معهم وجمعية المحامين الشبان الذي كان يترأسها آنذاك صديقي فيصل الجديدي. وانتهت صداقتي بمحمّد مزالي عندما انتصب عدوًّا للاتحاد العام التونسي للشغل وكان وراد افتعال القضايا لصديقي الحبيب عاشور وايقافه في السجن والهجمة الشرسة التي قامت بها ميليشيات الحزب الدستوري والشعب المهنية والتي اطلق عليها محمد مزالي اسم النقابيين الشرفاء وتمّ تفكيك الاتحاد العام بالحديد والنار وتسبب مزالي في ازمة الاتحاد الثالثة (ازمة سنة 1985) ولكن تلك القضايا سوف يأتي الحديث عنها في إبّانها وسأتحدث خاصة عن دور زين العابدين بن علي مدير الامن آنذاك فيها. ولكن أعد الان إلى الحديث عن الظروف والاسباب التي أدّت باستنجاد محمد مزالي بزين العابدين بن علي وتسميته من طرف الحبيب بورقيبة باقتراح من مزالي. وكان المازري شقير قد استجاب لاقتراح كمال لطيّف في تعيينه وهو الذي سعى ايضا مع المازري شقير إلى تعيين الهادي البكوش مديرًا للحزب وكان ذلك نتيجة احداث ثورة الخبز والتي انتهت بطرد ادريس قيقة وزير الداخلية القويّ ليحلّ محلّه محمد مزالي ويجمع بين الوزارة الاولى ووزارة الداخلية ويصبح زين العابدين بن علي مرّة اخرى مديرًا للامن بعد مرور ما يقارب الخمس سنوات على طرده من ذلك المنصب. وسوف اتحدث في الحلقة القادمة عن احداث ثورة الخبز وما ادخلته من تغييرات على الفرقاء السياسيين في الحكومة.