بتوالي الأيام الموالية ل 14 جانفي، بدأ الهدوء يعود إلى الشارع والساحات العامة كما إلى العقول والأحزاب والمنظمات والجمعيات. ربما تكون هذه المرّة البداية بالنسبة للنخب للابتعاد عن التعويم والدخول في الأهم بعد المهمّ. إن الانتصارات التاريخية التي فرضها الشعب التونسي في الإطاحة بالدكتاتورية والمعارك الحاسمة التي قادها شبابه وكافة مكوناته المدنية لاستبعاد جزء لا بأس به من بقايا النظام البائد. فيما تتواصل المنازلات يوميا لكشف كل التعبيرات وصنّاع الدكتاتور. وآخرها كان حركة المعتمدين الذين يشكلون إلى جانب العمد أهم أدوات إدارة اللعبة قاعديا في إدارة الشأن العام خاصة إذا نظرنا لصلوحيات هاتين الصفتين ومدى ارتباطهما بالمواطن وخاصة الشرائح الفقيرة والمعدمة وهي أوسع الشرائح الاجتماعية التي تميز نظام بن علي في جعلها غالبية ساحقة. إن المتتبع للمشهد الاعلامي النافذة الرئيسية إلى حد الآن للتعرف عما تطلبه الأحزاب السياسية «القديمة» من الشعب في ظل الغياب شبه الكلي لأشكال الدعاية الأساسية (الاجتماعات العامة، المناشير المسيرات الحزبية الجرائد الحزبية المتوفرة في الفضاءات العمومية الخ..) لأسباب مختلفة في الحقيقة منها ما هو خيار حزبي له مرتكزاته ومنها ما هو نتيجة لعدم الاحتكام لقاعدة جماهيرية ومنها الخوف من «Dégage». يمكن اختصار هذا المطلب في تعبئة الجماهير لاجتثاث بقايا النظام وتوسيع دائرة «التنظيف» تدريجيا من أعلى هرم الإدارة إلى الإدارات الوسطى ثم القاعدية المحلية وهي مهام أساسية في المسار الثوري الذي دشنه الشعب التونسي منذ 14 جانفي فالانتقال الديمقراطي والقطع مع الماضي لا يمكن أن يتم في كل الأحوال إلا بنساء ورجال جدد أفرزتهم الثورة الجديدة. وفي الجانب الثاني هو الاعداد لانتخاب مجلس تأسيسي يكون الأساس الدستوري للقطع مع النظام القديم. ولقد توصلت النخب السياسية ومكونات المجتمع المدني إلى فرض في إطار وفاق تشكيل أولي للهيئة العليا لحماية أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. وتبدو التركيبة الأولية قد لامست إلى حدّ ما مجمع الرؤوس والتصورات الفكرية والسياسية مع تفوق واضح للشخصيات الوطنية باعتبار تواضع حجم الأحزاب في المجتمع لأسباب يطول شرحها. لكن الشعب الكريم الذي تزعم النضالات الميدانية في الجهات والعاصمة، يبدو أنه لم يكتف برفض السائد القديم والتخلص منه ولا تشكيل لجنة وطنية لحماية أهداف الثورة. بل فتح الأفق على مصراعيه في الدفع نحو التصورات ففيما يخص الهيئة العليا، يردّد الشارع وفي أغلب الجهات في مواقع العمل كما في المقاهي وحلقات النقاش الضيقة والموسعة إن الجانب الشكلي للجنة يبقى مبتورا ما لم يردف بوفاق حول المضمون الذي يجب أن يتماهى مع أهداف الثورة في أبعادها الاجتماعية والديمقراطية والوطنية. في البعد الاجتماعي للثورة لقد اندلعت الشرارة الأولى للثورة يوم 17 ديسمبر 2010 كردّ على الهميش الاجتماعي والمطالبة بالحق في العمل الكريم وعليه فإن الوفاق حول المضمون الاجتماعي الجديد يجب أن يمسّ أوسع الشرائح بربط المنوال التنموي والاقتصادي مهما كان نوعه بالبعد الاجتماعي الذي تخلّت عنه الدولة والمؤسسات طوال عقود وتقنينه بكل وضوح والذي يجب أن يمس الحق في العمل اللائق دون «سمسرة» والحق في العلاج والتداوي والحق في التعليم والسكن اللائق والنقل وأن يقع تصحيح المقاييس وتقنينها واعتماد التصريح على الدخل الفردي المقياس الوحيد لتصنيف نسب التمتع بهذه الخدمات الأساسية كما يجب أن يقع التنصيص على حق المرأة في رخص الأمومة خالصة الأجر ورخص تربية الأبناء اعترافا بالدور الهام الذي تلعبه المرأة التونسية في بناء تونس الغد واقرار حقوقها في المساواة في الأجر والمعاملة في مواطن العمل وصدّ الباب أمام الدعاوى التي تحاول الالتفاف حول مكاسب مجتمعنا. أما في الحديث الديمقراطي فإن من أوكد مطالب الشعب اليوم وهي جوهر أهداف الثورة: القطع مع الأسس المادية واللوجستية للدكتاتورية وصدّ الباب أمام فرضيات عودتها في أي شكل من الأشكال وهو أمر يجعل من ضرورة الاقرار بجملة من المبادئ الكونية والديمقراطية والانسانية المهمة والتي لا تحتمل التأجيل. الحق في التفكير. ضمان حرية المعتقد. ضمان حرية التعبير. فصل الدين عن السياسة. الفصل بين السلطات الثلاث. كما أن من الأشياء التي أشعلت نيران الغضب في صفوف الشعب التونسي وخاصة شريحة الشباب منه هي تفشي ظاهرة «الرشوة» و«الأكتاف» و«المحسوبية» و«افتكاك الأملاك» و«قطع الأرزاق لكل من يشتم منه رائحة المعارضة السياسية للسائد» وبالتالي فإن الشعب التونسي بكل شرائحه لن يطمئن مادام لم تتوصل المجموعة الوطنية اليوم إلى طريقة «لاجتثاث» هذه الممارسات ومنع إمكان حدوثها في المستقبل. وخلاصة القول كي نسعى إلى ربط إرادة النخب والساسة بإرادة الشعب لا بدّ أن نربط الصراع السياسي ذا الأفق البعيد بالبعد الاجتماعي للثورة وأهدافها الديمقراطية فرفع الشعار الرنّان وتبني الحرية والكرامة والديمقراطية لا معنى له اليوم إذا لم يستند بالتزام مدني واضح لا يقبل التأويل بأبعاده الاجتماعية والديمقراطية والوطنية يكون ملخصا للحد الأدنى المدني والاجتماعي والسياسي المتفق عليه والذي على قاعدة القبول به والالتزام به وإمضائه الشرط الأساسي للترشح لعضوية المجلس التأسيسي الذي سيضع الركائز الدستورية لتونس التي نريد؟ تونس التي نريدها قادرة على استيعاب كال أبنائها وبناتها باختلافاتهم وبوحدتهم تونس التي دفعت الفواتير تباعا وبات من حق شعبها في حياة دون استثناءات دون تهميش دون وصاية ودون تحجّر.