قامت الثورة في تونس عنيدة، وبلغت مقصدها برحيل هرم السلطة، لكن وبدون انتقاص كانت ثورة غير مرشدة وغير مستحضرة لإرساء البديل فكيف ذلك؟ وما تبعاته وما أسبابه؟ أولا قام بالثورة شباب استهلكه النظام السابق، فهمشه، وحال دونه وتصور المستقبل وقد عمل النظام جهده لافقاده الثقة بنفسه وإشعاره بالقصور، شباب متخوف على مستقبله، وفقد الثقة في ذلك النظام ودواليبه، فشعر نحو بالضغينة والاحتقار، وبما أن هذا الشباب مهمشا في غالبيته كان بعيدا كل البعد عن طموح الأمة المنشود بقيمها وتاريخها وتطورها الحضاري السليم وهو غير مؤطر إيديولوجيا وفكريا وغير مستوعب لذلك لأن النظام السابق منع هذا هذا الترشيد وهذه الثقافة السياسية انذاك منعا باتا وسعى لأن يكون هذا الشاب معطل الإدراك، وأن يعيش ليومه وحاجاته الممتنعة ونزواته فلا قيم ولا مبادئ تنحت منه ذلك النموذج السوي من الشباب المسؤول الذي يستطيع تصور ونحت مستقبل تسوده تلك المبادئ، تم ذلك بفعل التوجيه الخاطئ وفي الأنشطة الموجهة والتعليم والتظاهرات الفارغة والإعلام التافه الغادر، أضف إلى ذلك حالة الخصاصة والحرمان الذي يشعر به ويظهر ذلك جليا للمتتبّع من خلال متابعة جحافل، الشباب اناثا وذكورا في تصرفهم اليومي، ودراسته لخطابهم المخجل على الشبكة العنكبوتية أضف إلى ذلك العامل الاقتصادي الذي ارهق الجميع وتشجيع الرشوة والفساد فبات الواحد يبحث عن فرصته عملا لتأمين حياته وحياة أسرته مهما كانت الظروف وبأي طريقة وتحت أي ظرف وحتى الذين حافظوا جاهدين على السلوك النظيف وكان لهم وعي فقد طوقهم عامل الخوف واليأس وطالهم التذبذب بين ما يعتنقونه من مبادئ وقيم وما يؤمنون به وبين الانغماس مع الجانب الآخر العابث لتوفير الضروري من متطلبات العيش، هذا الشباب وهذه اللبنات التي تحققت بها الثورة تحقق مطلبهم الأولي ولا يكادون يصدقون هذا التحول من فرط حفرت تلك الدكتاتورية في قلوبهم وانطبع بها وجدانهم (عليهم بذل الجهد للتخلص منه). ذهب رأس الهرم وذهب النظام ولكن بنيته لم تذهب وازاء هذا الذي ذكرنا وازاء ما يعانيه الشباب من فراغ وتهميش فطروه عليه بخبث قامت ثورته فنجحت مبدئيا ثم شل تحرك هذا الشباب فلم يبدع ولم يستطع تفعيل ما حققه والوصول به إلى غاية ما بعد الثورة وماهو المطلوب كثرت الغوغائية، والآراء، المضادة، والتخويف والارتباك والجرائم والاعتداء على الممتلكات والنهب، والاعتصامات، والتظاهرات التي كانت كلها نفعية ومطلبية لا يسوغها أي منطق ولا يتحملها اقتصاد وهنا وهناك مظاهرات تردد دائما ، الشعب يريد كذا وكذا لكن أعلى هرم السلطة السياسة نستطيع أن نقول إنه بقي ثابتا رغم بعض الارتباك الذي ساده، وأصبح رأس النظام المؤقت يتكلم وشباب الثورة يبحث في جوانبه عن تأكيد وإقناع ويكاد لا يفقه ما يقال. نعم نجحت الثورة فما هي النتائج؟ ولماذا أقصي من قام بالثورة عن الفعل وإعطاء الرأي؟ وماهو الضامن أن أصحاب القرار سيقطعون نهائيا مع العهد البائد؟ وتكبر الحيرة وتتوالى الإشاعات حول ردة الفعل المضادة للثورة ، مع تعامل من السلطة بنوع من البرود لا الحسم مع المخالفات ومخلفات العهد البائد ورموزه ليستمع الشباب إلى خطاب عائم يزيده حيرة ويعظم تساؤله لما يراه من انجازات باهرة قامت بها ثورة الشقيقة مصر، فالمسؤول المؤقت هناك كان ثائرا مع الشباب في ساحة التحرير، وعندما نصبوه مؤقتا كان يتكلم بنبضهم ويشرع مطالبهم ويحيا بأحاسيسهم من ناحية أخرى وقع التعامل مع العهد البائد ورموزه بمنتهى الشفافية والوضوح في المحاسبة كما وقع قطع ضخ النفط على اسرائيل رغم أنف إسرائيل وأمريكا، وتم فتح معبر رفح كذلك، ثم وقع تحوير بعض بنود الدستور بما يتماشى مع روح الثورة بسرعة قياسية، هذا مع بقاء العين الساهرة على أمن البلد من الجميع وبالمحصلة هناك تناغم كامل في المحيط المصري مع ثورته لم نجده عندنا في تونس فأين الخطأ إذن في ثورتنا؟ أن شبابنا الذي عانى من التهميش ولم يكن مؤطرا سياسيا، لم تكن له تلك القوة الواعية التي تفرض رؤيتها المتبصرة في التغيير كما في مصر وأصبح لديه توجس بينه وبين سلطة القرار التي أصبحت هي التي تقرر وتفسر وسط ظلال من الشكوك حولها الأمر الذي خفت معه وهج الثورة التي لم تنجح في فرض أسس التغيير، ولم تقرر بعد ملامحه وهل حقا أن الإلهام جاء من تونس والإبداع يكون مصريا ربما صدقت هذه المقولة.