1 أحترم قرّائي جدّا، ولكنني لم أجد كلمات أقلّ بذاءة تؤدّي ما اشتهيت وصفه، أو تجعل القارئ يقرف ويتقزّز مثلي، وأنا وسط المشهد الذي سأصفه لكم، بروائحه ، وسحب ذبابه، بالحشرات والهوامّ المعشّشة فيه، بمساحته المغطّاة بالخرق الملطّخة، وبقايا الطّعام، والسمك الفاسد، بقشور الثّمار والفواكه الجافّة والطّريّة، بعلب المصبّرات والزّجاجات الفارغة، بهياكل الأرانب والدّجاج، بقشور البيض وبقايا الخضر، بكل ما يمكن تصوّره من فضلات مطبخ كبير عامر، اعتاد أهله تدليل أنفسهم وزوّارهم، هو مطبخ القصر الرّئاسي بقرطاج. مثل هذه القاذورات يخرج عادة من الباب الخلفي للمطبخ في حاويات مغلقة، لا ترى محتواها العيون، ولا تشتمّ رائحتها الأنوف، ولكنها خرجت على أيّامنا هذه في صورة كتاب فضائحيّ(1)، نشأت فكرته في رأس طبّاخ اختارته زوجة الرئيس ليكون خادمها الخاصّ، وحرّرته صحافيّة فرنسية أضافت إليه محسّنات بلاغية كثيرة، ووثّقت معلوماته التاريخيّة، بكيفيّة لا أظنّ ذلك الطبّاخ يعرفها، أو يقدر عليها. كانت رغبة المحرّرة في الفضح والتشهير واضحة، لذا فصّلت القول فيما هو بذيء، لكن مع تغليف السّخافات ببعض التوثيق ، ربّما لكسب احترام القرّاء والنّقّاد. 2 إنّ من يقرأ المقتطفات التّالية من مشاهد الكتاب لن يجد نفسه بعيدا عن مصبّ قمامة، وسيغفر لي استعمال نعوت غير لائقة، لأنّ ما سأعرضه ليس سوى اختصار شديد لرواية رديئة ، وغير لائقة: «كانون الفحم. البخور يملأ مكتب الرّئيس. العزّامة تهمهم.السكّين وأمّ البوية. ينزل دم الحرباء على أصبعي. أرسم خلخالا حول ساق الرئيس. بن علي يضحك ويمازح زوجته...تعوّدنا العثور على وزغة تحت مخدّة الرئيس. أشقّ بطن الحرباء. تلقي العزّامة الدّابّة في النّار. تطقطق وتئنّ كالرّضيع. المنصف بن علي يروّج المخدّرات. ليلى تساعده. تزوّجت أخاه غصبا عنه فولدت بنتا قبل الزّواج، وأخرى بعد الزّواج بخمسة أشهر.أسكنها الرّئيس القصر مع زوجته الأولى. مشاحنات الضرّتين موضوعها «ماذا طبختم للأخرى؟».تسرق ليلى طواقم الأكل من بيت ضرّتها. مهووسة بتفقّد المطبخ وتفتيشه. يمرض الرّئيس بمعدته. ينصحه عرّاف بزيارة سيدي الغربي والاستحمام بماء بئره.. بعد موت الرّئيس عرفات تضاعف خوفها من المطبخ. تقضي أخواتها أيام الصّيف عندنا في طلب الطعام طول اليوم. لا تهتمّ ليلى ببناتها . اشتهت نسرين همبورغر فجيء به من أوروبا .تجنّدت وحدة أمنيّة كاملة لجلبه من المطار . زوج نسرين صخر الماطري مغرم بالشيشة. استقدم خادما من بنغلاديش لإعدادها، ولمهمّة أخرى جنسيّة تخصّه. لليلى عشيق يزورها في بيت أختها ناجية. شكّ بن علي وسألها: «الرّجل الذي يزورك عشيقك أم عشيق ليلى؟». ارتعدت من المفاجأة . خفضت بصرها وأجابت: «يأتيني أنا، سيدي الرّئيس». وظّف بن علي وسيطا لجلب الحسناوات.. يختار العربي عيسى المرشّحة ويعرضها. وكنت أجهّز جناح اللّقاءات الغراميّة .عاشر امرأة متزوّجة من قليبية، فلما حملت أجهضها.غارت ليلى وهدّدت بالفرار.لكمها وجرى خلفها بمسدّس وهي تستغيث. غار بن علي من نجيب الخطّاب فأمر من دسّ له السّمّ. ليلى شغوفة باكتشاف الكنوز. تستعين بالسّحرة والمشعوذين. استحوذت من المواقع الأثرية على أشياء ثمينة باعتها.استولت أيضا على جزء من مخلّفات البايات المحفوظة بخزينة الدّولة.» دفعتني شهوة التلصّص إلى التهام الكتاب وأنا مندهش، ولما أنهيته ازدحم عقلي بالأسئلة: ألهذه الدّرجة كان اهتمام العائلة الرّئاسية بالأكل والنّكاح؟ ألم يعش الزّوجان وعائلتهما إلا للتّكالب على المال والشّهوات؟ ما نصيب النشاط الروحي والفكري والعاطفي في حياتهما هذه المتصحّرة؟ كيف ربّيا الأبناء وكم أعطياهم من الحنان والقدوة الحسنة؟ ألم يشعرا أبدا بقيمة العلاقات الإنسانيّة؟ فهذا يقتل، وآخر يسلخ جلده ويعذّب، وذاك يغدر به، أو يؤخذ ماله وتختطف زوجته. سؤالي الكبير: هل هؤلاء من كانوا حكّامنا، الماسكين بمصير بلدنا؟ أهؤلاء ممثّلونا، بهم نعرف ،و من خلالهم يحكم علينا؟ وسؤالي الأكبر: كيف نامت العيون، وخرست الألسن عشرين سنة؟ أين كان كبراء الدّولة والمجتمع، و فيهم العالم العلاّمة، والمفكّر الفهّامة ؟ عندما أستعرض أسماء بعضهم أستحي أن أكون مكانه، أن أخدم رجلا لا تصل قامته إلى ركبي...رجلا بيده القوّة، لكن بلا عقل ولا حكمة. يركب رجال دولتنا السيارات الفاخرة، أو يجلسون خلف المكاتب الفخمة، فنظنّهم كبارا فعلا، أحرارا فعلا، وهم في الحقيقة ظلّ سيّدهم وبوقه. وإلاّ فكيف سكتوا على خراب البلاد، بل وساهموا فيه ؟ لم نسمع بواحد منهم زكمت أنفه روائح مشاريع القصر المشبوهة. لم نشاهد رجلا من أصحاب العلم والخبرة ينسحب بكرامة، ويتعالى على الأكل في الصّحون القذرة ، بل بالعكس، ما رأينا واحدا يغادر الحكومة إلا وهو دامع العينين، أهل للعزاء. 3 كلّما اتّسعت معرفتي بخبايا القصر الرّئاسي ازداد شعوري بالمذلّة، وهانت عليّ نفسي، لأنني ، أنا وسائر أفراد شعبي ، كنّا مقهورين، لا أحد منّا استطاع رفض شيء لبن علي ، أو زوجته ، أو أصهاره، ولا حتّى رفع إصبعه في وجه القوّاد الذي يجلب له البنات ، أو «الطّحّان» الذي يفرش الملاية البيضاء لعشيق ليلى .إنه القهر الذي يصيب الرّجال، فيغيّب عقولهم ويهزم أرواحهم ، ويجعلهم شياها تثغو، ولا تقاوم الذّبح. لم يعد لوطن عشت فيه عمري كله نفس المعنى، كأنّني أكتشفه ثانية. وبدأت أفهم دواعي من هاجروا أو خطّطوا للهجرة. عذرت الحارقين الذين سمح الوطن لأجسامهم أن تنمو، ولم يسمح لذواتهم وآمالهم أن تتحقّق. وقد قرأت مؤخّرا في كتاب (2) للأستاذ فتحي بن سلامة تحليلا لأسباب الثورة التونسية، وأهمّها في رأيه الإحساس بالقهر. ووجدته يستعير من الفيلسوف جيل دولوز عبارة ترجمتها التقريبية: «إذا احتقر الرّجل ذاته...ألا يكون الوقت مناسبا عندئذ للثّورة؟». وفي الكتاب أيضا عبارات متفائلة، حاولت بها تجديد خلايا النفس المكلومة بجروح الماضي، منها أن «كينونة الإنسان « مبنية على التجدّد، وأنّ الإنسان «يطيح ويقوم»، لكن إن احتقر ذاته و كره نفسه ، عليه أن يثور. إذا بلغ السقوط درجة الصّفر، تكون الثورة هي الميلاد. (1) L. Ben Chrouda – I. Soares Boumalala, Dans l'ombre d'une reine, Michel Lafon, 2011. (2) F. Benslama, Soudain la révolution !, Cérès, 2011.