المخرج المسرحي والكاتب رياض الحاج طيب (صفاقس) تشهد تونس اليوم تجاذبا واضحا بين نظام قديم ومعقد يواجه صعوبات الاستمرار، ولكنه يمتلك قدرة فائقة على التكيف واعادة انتاج نفسه، وبين نظام جديد هو بصدد التخلق من رحم الثورة ومطالبها الجذرية، ولكنه مازال يتلمس طريقه نحو البزوغ والبناء، لقد تمكنت قوى «العهد القديم» من حماية نفسها وترسيخ مواقعها عبر استخدامها الذرائعي لشرعية الثورة والتبرؤ الظاهري على الأقل من مخلفات حقبة بن علي، ثم من خلال نفوذها الواسع في الادارة وسائر أجهزة الدولة، أما القوى الجديدة التي أفرزتها الثورة، والتي تستمد قوتها ومصدر شرعيتها أساسا من الشارع والضغط الشعبي العام، فهي لم تقو بعد على ترجمة مطالبها السياسية في الاصلاح الجذري سواء على صعيد مؤسسات الحكم أو رجالاته، أما النخبة التي تولت الحكم بعد رحيل الرئيس المخلوع بن علي، ليس لها رؤية واضحة للمرحلة القادمة، ويتسم سلوكها السياسي في الغالب بالتكيف الاضطراري وتجنب مصادمة الشارع، ولكن مع وجود ارادة قوية لاحتواء الوضع الناشئ وعدم الذهاب بعيدا في عملية التغيير، لكن ضغوط الشارع الذي لا يزال مصرا على قطف ثمار ثورته كاملة من أجل الحفاظ على تماسك المجتمع ودوره الوطني يستحضر السؤال نفسه عن الطرق والوسائل التي يمكن للفرد في المجتمع اتباعها من أردإ خلل أو غبن حاق به أو بغيره في كل مرة يجري فيها الحديث عن عملية ادارة الحركة المعيشية في المجتمع، وتكثر الاجابات التي تدور في اطار شخصنة المسؤوليات والحلول، ويغرق الحديث في الشخصنة والأشخاص، كضرورة وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والبحث عن أشخاص يتسمون بالنزاهة والكفاءة، ويحار المرء متسائلا عن سبب غياب الاشخاص الأكفاء عن ساحة الممارسة العملية لمسؤوليات العمل الوظيفي والأداء الوطني بشتى أشكاله وصنوفه؟ ليبدو الأمر لوهلة، وكأن المجتمع يخلو من الكفاءات المناسبة، مع أن الوطن يزخر بالكفاءات التي تلبي طموح الارادة الشعبية في تطلعها الى آفاق، يرتقي فيها المجتمع الى المستوى المأمول، وغالبا ما تجير مسؤولية تلبية طموح الارادة الشعبية في تحقيق متطلباتها الى المبني للمجهول، وعندما يستفسر أحدهم عن هوية المبني للمجهول تأتي الاجابة سريعا: «الدولة»، ولا يحتاج الأمر الى التأمل من أجل ادراك حقيقة أن الدولة هي المجتمع، هي نحن جميعا، ولا تغادر بعض الاذهان تلك الصورة النمطية عن أنه ثمة انقسام في المجتمع بين طرفي معادلة حكم المجتمع، الى طرف فاعل حاكم وطرف منفعل محكوم. لاشك في أن تلك الصورة النمطية التقليدية، ساهم في ارسائها عدم ارتقاء الحراك المجتمعي التفاعلي الى المستوى المطلوب الذي تنحسر معه سلبية الفرد في المجتمع، ويتمكن من الخروج من عقال مفهوم كونه الطرف المحكوم في معادلة ادارة شؤونه، ويدرك أنه ليس الطرف الأساس في المعادلة فحسب، بل يمثل المعادلة برمتها، وكسر تلك الصورة النمطية في المنظومة الذهنية لأفراد المجتمع يأتي في سياق تطبيق الآليات والبرامج والأطر الوطنية التي تحقق سبل المشاركة الحقيقية والفعالة لجميع أفراد المجتمع وفقا لمبدإ الفرص في عملية بناء المجتمع على أساس الكفاءة والفاعلية في ممارسة الدور والمسؤولية، فلا يعود هناك ثمة من يلقي باللائمة على المبني للمجهول بل يتحمل كل فرد قسطه من الواجبات المنوطة به وينال الحقوق المستحقة له، ولاشك في أن سلبية المجتمع وانكفاءه عن تحمل مسؤولياته وإلقاء كل من أفراده باللائمة على الآخر، يمثل العنصر الأساس في تقويض حركة المجتمع نحو تحقيق عناصر الارتقاء بطبيعة وجوده، ليصبح كل فرد مدعوا الى المشاركة في عملية بناء المجتمع، وتقع على عاتقه مسؤولية درء أي تقصير والابلاغ عن أي خلل بشكل سلس وواضح وشفاف، عبر سبل وآليات متاحة للجميع تمكنهم من المشاركة الفعالة التي تغني المجتمع وتعزز الوعي الوطني الكبير الذي يتحلى به، ليتماهى المجتمع مع الدولة ولا يعد ثمة من يمكنه الاكتفاء بإلقاء تهمة التقصير على الآخر أو بقاء ممارسة عملية النقد البناء في اطار تداول الأحاديث غير المجدي في ظل توافر السبل المؤسساتية والاطر اللازمة لممارسة الجميع دوره، ويمكن القول في هذا السياق، ان التعويل لا يكون بشكل أساسي على الأشخاص الذين يضطلعون بأدوار مسؤولية ادارة شؤون المجتمع، بل التعويل يكون بالدرجة الأولى على البرامج والآليات المنوطة بهؤلاء الأشخاص، ولا يجب بهذا المعنى التوقف كثيرا عند الأشخاص، اذ ان الأشخاص ذاتهم الذين تكون أدوارهم سلبية يمكن ان تنقلب الى ايجابية في ممارسة مسؤولياتهم عندما تتغير البرامج والآليات والمفاهيم والمنطلقات والأهداف التي يتحركون على أساسها. وعلى العكس مما يعتقده بعضهم، فإن السبل والآليات التشاركية تعزز دور الشباب الوطني المتسم بالروح الوطنية العالية الذي يدرك موقعه الوطني على خارطة الحركة السياسية وتعقيداتها وتداخلاتها، تلك السبل والآليات التشاركية تفسح المجال أمام هؤلاء الشباب من أجل الاضطلاع بالدور الفعال الذي تتطلبه عملية الارتقاء بالمجتمع، كما تمكنهم من الاسهام في تحصين الدور الوطني للمجتمع في مواجهة كل من يسعى الى تقويضه وتقويض تلاحم وتماسك واستقرار المجتمع، وفي المقابل، كلما انحسرت الحالة التشاركية تزداد فرص من يسعون الى تقويض استقرار المجتمع وتماسكه ودوره الوطني ويمكنهم التسلل عبر وسائل تؤمنها لهم حالة انحسار السبل المؤسساتية التي من المفترض اللجوء اليها، وهؤلاء الساعون لركوب انتهازي لحالة مجتمعية، يعملون في الأساس على عرقلة ومواجهة أي خطوة على طريق تحقيق التشاركية المجتمعية الحقيقية لأنها لا تتوافق مع المنطلقات والأهداف التي يتحركون في سياقها، وفي ظل الاصرار على خلق المناخ اللازمة لتأطير واستقطاب واستيعاب الشباب الوطني، تتراجع فرص الركوب الانتهازي لحالة مجتمعية تحت عناوين وشعارات يشترك فيها أساسا جميع أبناء الوطن في سعي لتحقيق أهداف لا تمت بصلة الى المجتمع ونسيجه وطبيعته ومصلحته. نقطة الانطلاق على هامش هذه الرحلة مرحلة تونس ما بعد الثورة المشحونة بطاقة الارادة والرغبة في التغيير نحو الأفضل، الداعية الى ضرورة الانسجام بين التونسي ومن داخل الانسان فيه وخارجه. عندما نعطي الآخرين فلا شك أننا نعطي أنفسنا، والعكس كذلك صحيح، لكن السؤال هو أين تكون البداية... وأين هي نقطة الانطلاق؟ هل ننطلق من عطاء الآخرين دون أن نهتم بأنفسنا.... أو نهتم بأنفسنا من أجل أن نعطي الآخرين؟ المسألة لا تنطلق من المقولة الشائعة: (أيهما يسبق البيضة أو الدجاجة)... وتبقى تدور في فلك الجدل الفلسفي، وإنما ترتبط برؤية وهي أن الانسان مسؤول عن الناس... وعن أهله... وعن بلده... لكن المسؤولية الأولى تبدأ عند الذات وهذا يعني أنك مسؤول عن ذاتك دائما، وهذه من الأمور التي تتكرر في الرؤية الاسلامية، وأنت تعرف أن صاحب الصدقة أولى بها ان كان محتاجا لها، وكذلك صاحب الزكاة، فإصلاح الانسان لنفسه وتقويمه لها سيؤدي الى اصلاح الآخرين وتقويمهم، ومن الخطإ ان يهتم الواحد منا بالآخرين دون أن يهتم بنفسه علما ان الاهتمام بالآخرين واجب بل يعد بيت القصيد، ولكن علينا أن نقول ان الاهتمام بالآخرين لابد له من أساس وهو الاهتمام بالنفس. «أنا مسؤول عن ذاتي ومهتم بتطويرها، وهذا ما يدفعني لأن أجلس قبالتها وأبدأ حوارا داخليا معها»... فهل هذا مطلوب فعلا؟ الحوار الداخلي يتطلب أن يكون الانسان في تواصل مع نفسه فهل يمكن لك أن تتخيل حياتك مع العائلة دون حوار يجمعكم؟ هذا غير طبيعي ولو وقع فإنه يشكل خللا ما، وهنا أسأل أي من الأمرين أقرب للإنسان: ذاته أم عائلته؟ من المؤكد أنها الذات، من هنا تنبع أهمية الحوار بيننا وبين ذواتنا، وفي حال غيابه فإن خللا ما يصيب علاقتنا بأنفسنا. والحوار هو مفتاحنا وطريقنا لكي نتواصل مع ذاتنا... ولكن هل التواصل هو مجرد كلام... أو الجلوس مع النفس والتحاور معها؟ الحوار يجعلك تفهم الطرف الذي تحاوره، وتعرف ماذا يريد وما هي احتياجاته، وتعرف كيف تشبع هذه الحاجات، الحوار يكشف لك جوانب هذه الشخصية التي تحاورها وكيف نستطيع أن نطور... أو نحسن... أو نتحكم... أو نسيطر على مشاعرنا وأفعالنا وتصرفاتنا وسلوكنا دون أن نتحاور معها؟ كيف نستطيع ان نكشف ذواتنا دون الحوار مع النفس؟ أنا لا أفترض أن هناك شكلا معينا من أشكال الحوار لابد أن يتم، المهم هو استمرارية الحوار مع الذات حتى نستطيع أن ننطلق في اكتشاف أنفسنا.