٭ بقلم : الأستاذ عادل الحاج سالم ويسعدني في هذه الأمسية أن أفتتح هذا اللقاء الفريد بالنسبة لي: تقديم كتاب صادر حديثا باللسان الفرنسي بلسان عربيّ أرجوأن أقوّم ما فيه من عجمة.. وتقديم كاتب اغترب في المكان ولاذ ببلاد أخرى وثقافة أخرى ويُسّر لسانه في لغة أخرى حتّى فقهوا قوله وفقهوا فكره، وحتّى صار لزاما علينا نحن أهله وصحبه أن نوسّط ترجمانا فنفهمه أحسن ما يكون الفهم، اذ أنّ كاتبنا اغترب مكانا ولسانا لكنّه بقي باحثا عن دفء شمسنا وظلّ العائلة والأصدقاء، الى جراحنا يمتّ وأفراحنا وأتراحنا، صداقاتٍ وعلاقاتٍ وقراءاتٍ وكتاباتٍ، تشهد بذلك رحلاته المتواترة جنوبا، وتشهد بذلك كتاباته قديمها ومحدثها، كتابات تعود بواكيرها الى ما يقارب الربع قرن تُعنى بمعاناتنا، فالاسلام ورغبةُ مقاربته من زوايا التحليل النفسيّ هوهاجسه الغالب، ونحسّ اذ نقرأ له أنّه يبذل جهده في لغة ليست لغتنا، ومناهج بحث ما لنا بها سابق معرفة، لكنّه لا يولي وجهه شطر فرنسا والفرنسيين، بل يوليه شطرنا، فنحن قرّاؤه الافتراضيون، ونحن ان شئنا من باب التجوّز «مرضاه» أو«حالاته» المفضّلة.. لأنّه وان لجأ الى لغة أخرى فانّه بقي مسكونا بلغتنا، اذ في اللغة يكمن جزء غالب من وجعنا، أقصد اللغة التي في النصوص مثلما أقصد اللغة التي يوظّفها اللصوص (واعتذاري لمحمود درويش على التصرّف)، فتلك اللغة التي لجأ اليها وفيها (واقتباسي ههنا من الشرايبي) عشيقة يشعر معها بالتحرّر من قيود التكلّف وادّعاء الحياء، وهذه لغتنا/لغته أمّ لا تُنسى وان أخذتنا عنها المدن والنساء والأطفال.. لغة يحفر فيها عميقا، في نصوصها الأولى، وفي نصوصها المحدثة، أوما يضع منها الحداثة طلاءً ورياءً.. ويحضرني في هذا السياق كتابه الأوّل «ليلة الفلق» وكيف حاور فيه النصّ المؤسّس (القرآن الكريم) باقتدار وتملّك لتلك اللغة الأمّ.. كما يحضرني ما في نصّه الأحدث موضوع لقائنا اليوم، حول ما وقف عليه من كلام التونسيين عن مشاعرهم الدفينة تجاه الرجل الّذي حكمهم طيلة 23 عاما بحيوانية في التمتّع بالسلطة كان ثمنها اخضاعهم بكلّ الأشكال الى درجة ملئهم بمشاعر العجز.. مشاعر لخّصوها في كلمة جامعة هي «القهر».. ليحفر الكاتب في الكلمة، ليجد في موروثنا اللغوي الضارب في القِدَم بعيدا عن «فرويد» وبعيدا عن مدارس التحليل النفسي، أنّ القهر يعني «اللحمَ اذا أخذته النار فسال ماؤه».. .فاذا لحمُنا، لحم البوعزيزي، ينهل من القهر فيسيل ماءً ما زلنا لا ندري بعد الى أين سيأخذنا، ولكن دونما شكّ الى مسارات غير مسارات القهر، والى آفاق غير آفاق الدكتاتورية مهما يكن لونها أومرجعيتها.. فكفى لحمنا احتراقا وما سال منه من ماءٍ كان له فضل الطوفان كنسَ دكتاتورا وطهّر أرضا، أليس الماءُ كما النارُ أداة تطهير؟؟ كانت لي مع فتحي بن سلامة محادثتان ابان أحداث الثورة، الأولى في ديسمبر حالما اشتعلت في سيدي بوزيد وسرت نارها الى منزل بوزيان وتالة والقصرين، والثانية عند اشتدادها في بداية جانفي، وعبر السكايب، وكان يسأل عن تفاصيل التفاصيل وعن أشياء لم يكن العقل المنشدّ الى اليوميّ من الأحداث يلتفت اليها.. وكان المحادثة الثالثة يوم لم يتمالك نفسه بعد زوال «القاهر» ببضعة أيام فحلّ بالبلاد، وتجوّلنا في باب البحر المسكون بأرواح الشهداء، في ليلة الشموع تلك، وأحسستُ أنّه سيقترف هذا الكتاب، ولم يبطئ فأرسل نصّا أوّل على أنّه نصّ صحفي، فترجمه الصديق مختار الخلفاوي ونشرناه بالأوان في بداية فيفري قبل صدوره بالفرنسية في «ليبراسيون».. قلتُ انّني أدركت يومها بباب البحر أن فتحي سيقترف هذا الكتاب.. اذ أنّ هذا الكتاب مجمعُ ذنوبٍ وان كانت ذنوبا لذيذة.. وذنبه الأكبر الذي ما زلت أشعر بمرارته وحلاوته في آن اذ ما زالت أمام عيني حروفه تتراقص وتخرج ألسنتها سخرية واستفزازا، هو قول صاحبه وكأنّما يعتزّ بالاثم اعتزازا، انّه قد كتب كتابه هذا انقاذا لنا من الثرثرة !! فما شأنك يا صاحبي بثرثرتنا وهل اشتكينا اليك منها؟؟ ثرثرة سادت بلادنا وما تزال، حوّلتنا الى محلّلين وخبراء ومفتيين، وجعلت عجائزنا وأطفالنا في المدن وفي الأرياف يفاضلون بين الأنظمة هل البرلمانيّ أفضل؟ واذا اخترنا الرئاسيّ هل نختاره يتيما مقطوعا من شجرة وعاجزا جنسيا لنطمئن الى أنّه لن يعوّض عائلة بعائلة ولن يبحث عن توريث ولا يتعرّض الى أموالنا وأعراضنا.. ثرثرة نابعة من مفاجئة، بل أفضّل عبارة مداهمة، فهذه ثورة كما نقول في دارجتنا الجميلة « دِهْمِتْ عْلِينا» بعدما يئسنا، بل بعدما نظّفنا ألسنتنا من كلمة ثورة فصارت مصطلحا يتّصل بالتاريخ وليس له بالسياسة أو الاجتماع أيّ اتّصال.. فكان ردّ فعلنا الأوّل هو الثرثرة، بل الهذيان أحيانا، بحيث أنّ الواحد منّا يحاول استرجاع الصور والأصوات والأحداث فيعيد تركيبها مرارا وتكرارا، لينساق الى ما يشبه أحلام اليقظة حتّى اذا ما خشي على عقله يصرخ في من بجواره: أقرصني حتى أستفيق.. ثرثرة وهذيان وأحلام، وصُورٌ تتمثّل في أشرطة تختلف من واحد منّا الى آخر، بل تختلف عند الواحد نفسه كلّ مرّة.. فلماذا يا صاحبي قطعتَ علينا هذه المتعة في بلد كانت المتعة فيه احتكارا؟ ولماذا هذا الكتاب يقتل فينا هذه الثرثرة الجميلة، ومن قال لك اننا نحتاج أصلا أن نفكّر بعقلانية، وأن ندرج ما حدث ثورة كان أو انتفاضة في حيز المفكّر به، وأن ندرك معاني احتكار الحاكم للمتعة، أو علاقة اللاوعي بالسياسة أو معنى النشأة الليبيدية للجمهور.. . وبعيدا عن الفذلكة، أوافق الكاتب في أنّه قد خاطر اذ تناول موضوع الثورة التونسية في وقت وجيز نسبيّا، خاصّة أنّ الكتاب ليس من النوع الذي يسرد أحداثا ووقائع، ولكنّه كما قال صاحبه» اسهام في انتشال الحدث من الثرثرة» لكنه أيضا اسهام في عدم اسقاط اللامفكّر فيه وهو نواته المشعّة.. وهو عمل يرنو الى مقاربة وتحليل لحظات هي «مشاهد البريق» التي قادت الناس الى الخروج مغادرة الصورة ومغادرة المخيال الذي حبسهم فيه الحكم القمعيّ طويلا كي يمشوا متعثّرين في الواقع السياسيّ. ولا أريد استباق تقديم الكتاب، فهذا في صميم ما سيقدّمه الأستاذ علي المزغنّي، ولكنني أقول انّ فتحي بن سلامة يقول في تواضع جمّ انّه في كتاباته السابقة خاصّة في كتابه الذي لم يترجم الى العربية(اعلان اللاخضوع/ دليل استعمال للمسلمين ولمن هم ليسوا كذلك)، لم يكن يحلم بأن تلقى كتاباته صدى يذكر في أرض الواقع، بل كانت نصوصا مرسلة الى المستقبل، الى الآتي.. لكنني أعتبر أنّ ذلك الكتاب وغيره من الكتب وحواراته الصحفية كانت كلّها حول مدار الهمّ الأكبر : كيف ندخل الحداثة وقد أوصدت دونها الأبواب؟ وكيف ولماذا تعود مجتمعاتنا الى العنف الأعمى، العنف الأقسى والأقصى، العنف السابق في وجوده على تأسّس تلك المجتمعات كمجتمعات أصلا؟؟ يقول فتحي في حوار أجراه معه صديقنا حسن بن عثمان في ديسمبر2007 ونشر في «الأوان» في جانفي 2008: (مجتمعاتنا لم تجد الى الآن، ولأسباب تاريخية، طريقها الى رسكلة السلطة بصفة عامة بين الأيدي البشرية. ما حصل هو أن الحكام الحاليين أخذوا السلطة بصفة فاحشة لدرجة أن التّخلّص منهم لا يمكن الا بسلطة أقوى. لذلك لجأ بعض المسلمين الى سلطة الاله المطلقة لمواجهة سلطة مطلقة في الواقع. اذن نرى أن الحرب الأهلية الموجودة في العالم العربي الاسلامي هي حرب حول السلطة، السلطة المطلقة التي تحكم الواقع في مقابل السلطة المطلقة للسماء. ومن هؤلاء الذين اعتمدوا سلطة السماء من وصل في استعمالها الى درجة فاحشة في مقاومة سلطة فاحشة. اذا عدنا الى مسألة علم النفس التحليلي نجد أن أقوى نزعة من نزعات النفس هي تملّك الآخر ومتعة التملّك. والحدّ من متعة التملّك في العلاقات الانسانية بين الأب والابن والزوجة وبين الحاكم والشعب هوالذي يمكّن من الخروج من الحرب الأهلية حول السلطة، ولذلك أرى أنّ الأزمة الحقيقية في العالم العربي الاسلامي هي أزمة ناتجة عن هذه النزعة، نزعة المتعة بالسلطة. ففي سبيل المتعة بالسلطة يتم استعمال القوة الجسدية والقوة البوليسية وقوة اسم الاله. اذا كان من سبيل الى تغيير ممكن فأنه تغيير أنفسنا قبل كل شيء). ويضيف: (دخول هذه المجتمعات الى الحداثة كان دخولا أفقدها التنظيم السياسي الذي يمكّن من الحدّ من متعة الأب الحيواني، لأن المشكل ليس في العدول عن هذه الحيوانية في التمتع بالسلطة أو الكلام بالشعارات الدينية، بل في التنظيم السياسي لحيوانية الانسان. وهذا يعني أن الدخول في التنظيم السياسي للمتعة والحدّ من السلطة لم يحصل بعد نظرا لاستيلاء الحكام على السلطة والانفراد بها.. التمتّع بالسلطة والاستحواذ على مكان الآخر هو استعمار أدهى من أي استعمار لأنه يعود بالمجتمعات الى قسوة ما قبل تأسيسها). -------------- (*) نص المداخلة التي ألقاها الأستاذ عادل حاج سالم في دار الثقافة ابن خلدون يوم 03 جوان 2011 مقدما كتاب فتحي بن سلامة ينفتح الكتاب باهداء الى الشاعر باسط بن حسن، ومقطع من قصيدته، الوحيدة التي كتبها بالدارجة التونسية ونشرها في ماي 2010 وعنوانها «حِلّوا البيبان»: «احبسوا الحبوسات يتفرهد الكلام وتسلطن غنّاية الناجين ............ طوفان قادم والكلام محبوس والكلام الحيّ مهجور» فتحي بن سلامة لا يحتاج تقديما لدى المتابعين للنقاش حول الاسلام السياسي ومقاربته بمناهج العلوم الانسانية، وأكتفي بالقول انه محلّل نفسانيّ وأستاذ علم النفس العلاجي، وعميد وحدة التكوين والبحث في علم النفس السريري والمرضي بجامعة باريس 7 ديدرو، وأذكّر بكتبه المترجمة الى اللغة العربية : ليلة الفلق(1988) تخييل الأصول(1994) الاسلام والتحليل النفسي(2002)