عمال بشركة منتصبة بصحراء تطاوين يحتجون ويطالبون بإلغاء المناولة    سليانة: إستئناف أشغال مركز الصحة الأساسية بمنطقة المقاربة بسليانة الجنوبية    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    مفزع: استشهاد أكثر من 100 صحفي خلال ستة أشهر في قطاع غزة..    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الثلاثاء 23 أفريل 2024    محمد الكوكي: هدفنا هو التأهل للمشاركة إفريقيا مع نهاية الموسم الحالي (فيديو)    غدًا طقس شتوي 100% مع أمطار غزيرة ب6 ولايات    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    سوسة: تعرض شاب لصعقة كهربائية أثناء تسلقه عمود كهربائي ذو ضغط عالي..    عاجل/ تحذير من بيض رخيص قد يحمل فيروس أنفلونزا الطيور..    بطولة ايطاليا : بولونيا يفوز على روما 3-1    اقتطاعات بالجملة من جرايات المتقاعدين...ماذا يحدث؟..    مترشحة للرئاسة تطرح استفتاء للشعب حول تعدد الزوجات في تونس..#خبر_عاجل    لأول مرة: التكنولوجيا التونسية تفتتح جناحا بمعرض "هانوفر" الدولي بألمانيا    الإطاحة ب 9 مروجين إثر مداهمات في سوسة    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    رغم منعه من السفر : مبروك كرشيد يغادر تونس!    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    طقس اليوم: أمطار في هذه المناطق وانخفاض في درجات الحرارة    مدنين: حجز 4700 حبة دواء مخدر وسط الكثبان الرملية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    مهرجان هوليوود للفيلم العربي: الفيلم التونسي 'إلى ابني' لظافر العابدين يتوج بجائزتين    نقل مغني فرنسي شهير إلى المستشفى بعد إصابته بطلق ناري    الأمم المتحدة: آسيا أكثر مناطق العالم تضرراً من كوارث المناخ ب2023    اتحاد الشغل بجبنيانة والعامرة يهدد بالإضراب العام    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    أراوخو يكشف عن آخر تطورات أزمته مع غوندوغان    البطولة الأفريقية للأندية الحائزة على الكأس في كرة اليد.. الترجي يفوز على شبيبة الأبيار الجزائري    الجزائر.. القضاء على إره.ابي واسترجاع سلاح من نوع "كلاشنكوف"    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    البنك التونسي السعودي ... الترفيع في رأس المال ب100 مليون دينار    في اختتام المهرجان الدولي «إيتيكات» بسوسة.. شعراء وفنانون عرب بصوت واحد: «صامدون حتى النصر»    هذه أبرز مخرجات الاجتماع التشاوري الأول بين رؤساء تونس والجزائر وليبيا    مذكّرات سياسي في «الشروق» (1)...وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم .. الخارجية التونسية... لا شرقية ولا غربية    المنستير.. الاحتفاظ بمدير مدرسة إعدادية وفتح بحث ضده بشبهة التحرش الجنسي    الإعلان عن تأسيس المجمع المهني للصناعة السينمائية لمنظمة الأعراف "كونكت"    بوعرقوب: القبض على 4 أشخاص كانوا بصدد سرقة أسلاك نحاسية خاصة بشركة عمومية    بداية من يوم غد: أمطار غزيرة وانخفاض في درجات الحرارة    استلام مشروع تركيز شبكة السوائل الطبية لوحدة العناية المركزة بقسم الأمراض الصدرية بالمستشفى الجامعي الهادي شاكر    تونس: وفاة 4 أطفال بسبب عدم توفّر الحليب الخاص بهم    الكاف: تقدم مشروع بناء سد ملاق العلوي بنسبة 84 %    بن عروس: توجيه 6 تنابيه لمخابز بسبب اخلالات تتعلق بشروط حفظ الصحة    وصول محمد الكوكي الى تونس فهل يكون المدرب الجديد للسي اس اس    باجة: انطلاق الاستعدادات لموسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج متوسط نتيجة تضرّر 35 بالمائة من مساحات الحبوب بالجهة    بعد ترشّحها لانتخابات جامعة كرة القدم: انهاء مهام رئيسة الرابطة النسائية لكرة اليد    تقرير: شروط المؤسسات المالية الدولية تقوض أنظمة الأمان الاجتماعي    حليب أطفال متّهم بتدمير صحة الأطفال في الدول الفقيرة    تكريم هند صبري في مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الخامسة    رئيس غرفة القصّابين عن أسعار علّوش العيد: ''600 دينار تجيب دندونة مش علّوش''    وزارة الدفاع الوطني تعرض أحدث إصداراتها في مجال التراث العسكري بمعرض تونس الدولي للكتاب    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس    هاليب تنسحب من بطولة مدريد المفتوحة للتنس    لأقصى استفادة.. أفضل وقت لتناول الفيتامينات خلال اليوم    في سابقة غريبة: رصد حالة إصابة بكورونا استمرت 613 يوماً..!    أولا وأخيرا..الكل ضد الكل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما بال قوم إذا قوّمناهم في سياستهم اتهمونا في ديننا : رضا السمين
نشر في الحوار نت يوم 05 - 12 - 2011

ما بال قوم إذا قوّمناهم في سياستهم اتهمونا في ديننا !
الفقراء أوّلا، ومجتمع الكفاءة.
لا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيكم إن لم تسمعوا !
لا بدّ من الاهتمام بالواقع وأولويّته على الماضي، وأولويّة المصالح العليا للمجتمع الأهلي، والانشغال بالمواطن الكريم في حاضره والتعامل مع قضاياه العملية وإعداده لمواجهة الكوارث الطبيعية أو الخارجية أو الهمجية، في حالات "عدم الاستقرار" و"عدم الاتفاق" و"عدم اليقين".
الواجب الأوّل هو الدفاع عن "المصالح العليا" للمجتمع الأهلي والرحمة للناس كافة، فالديمقراطية ليست تقسيم سلطة (...) بل أن يعيش المواطن في مجتمع تعاقدي ورابطة سياسية وثقافية متجددة، حيث الفرد هو الفاعل السياسي الأول في دولة الناس، وتعاون المجتمع السياسي شرط النموّ والتنمية، فيتجاوز المجتمع الأهلي الدولة السلطانية و"هيبتها"، أي المشاركة الواسعة والأفقية في حلّ المشكلات وعدم الخضوع لأسطورة "مطالبة الحكومة بحل كل مآزق المجتمع". إنّ تغيّر "ما بقوم" شرطه الذي لن تجد له تحويلا ولا تبديلا هو تغيير "ما بأنفسهم"، انتصار المجتمع الأهلي في هذه الحياة وانتصار المؤمن العامل في الآخرة، وكل إنسان ألزِم طائره في عنقه أي يتحمّل مسؤولية ونتائج أعماله.
الانتصار ضدّ الكآبة واليأس وضدّ العُهر والقهر، فالإنسان في قيعان مجتمعاتنا لا يتنفّس إلاّ التّلوّث والغبار، لا غذاء لا كساء لا حبّ ولا سكن، يهلكه القرف وتكثر بداخله ومن حوله العوالم السُّفليّة، تطحنه تجارب الموت البطيء والغمّ واللامبالاة والإكراه... فوجبت المساهمة العملية في ما يحقق مزيدا من التحرر الإنساني، ومواجهة آليات الفساد والاستبداد دون تردد ولا التفاف، لأنه لا قيام ولا كرامة لمجتمع تختلّ فيه علاقة السلطة بالمجتمع، ومن هنا الأهمية القصوى لمواجهة الاحتكار والقضاء على نواقض الديمقراطية في المجتمع مثل الرشوة والمحسوبية وكلّ ما يعرقل "مجتمع الكفاءة".
والحقّ أنّ الديمقراطية لا تكمن فقط في المظاهر الخارجية، من تعددية برلمانية وانتخاب وأغلبية، بل لها قيم أساسية تقوم عليها وهي الكرامة الإنسانية، ومجتمع الكفاءة، وتعزيز الثقة بالنفس لدى الأفراد وفي المجتمع الأهلي، والقناعة الفكرية بصلاحيّة الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة عند النخبة وفي المجتمع، واعتبار الألم الإنساني شرّا في حدّ ذاته، وأنّ العدالة هي الأصل للتنمية والتقدم والسلم الأهلي.
القضايا الكبرى هي المصالح الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية في المدن، وقراءة القرآن والرحمة للعالمين، ومكانة الإنسان وهويته، ومسائل المرأة، وقضايا البيئة والأوبئة والتعاون، والخصوصية والعالمية، والعقل وتنازع المعاني، والفردي والعام ومسائل الحميمية، والاحتفاء بالإنسان وبالمكان وبالزمن وبالجسد وبالإرادة وبالمبادرة، وتوليد القدرة على تحدي الظروف التاريخية والإيمان بقوة الفعل الإنساني ورحمة الله و"مشروعية الشعب". القطع مع أدلوجة وعقيدة أن الدولة هي محط كل الآمال والآلام، ونقل الاهتمام السياسي والفعل المدني من الدولة إلى المجتمع الأهلي، دون أن يعني ذلك توريط المجتمع المدني في تحمل كلّ أعباء العدل الاجتماعي الذي تخلت عنه الدولة في الحقبة النيو ليبرالية، والتي تغوّلت فيها سلطة الدولة وتوحّشت على حساب الناس، رغم محاولات الشعوب، سلمًا أو ثورة، للحصول على حقها في المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية، فالثابت أن الدولة، أيًّا كان شكل نظام حكمها، هي في مواجهة المجتمع لإخضاعه، وفي مرحلتنا التاريخية هذه، لصالح الشركات المتعدّدة الجنسية، وتحويل العلاقات الاجتماعية إلى علاقات سلعية، والإحلال الكلّي للمنفعة مقابل المَرحمة.
الأسس التي ينبني عليها المجتمع الحديث هي ممارسة الحرية والوجود الإنساني في المجال العام، وأولوية المواطن والوطن ونزع القدسية عن السياسي، وإكساب الحقوق مكانة قانونية ودستورية، بدلا من التوافق التقليدي أو الغلبة، وكلّما تقلّصت "هيبة الدولة" ظهر المواطن، وانتصر الناس في مواجهة قيود الدولة وسلطانها دون السعي لا لهدمها ولا للسيطرة عليها.
كيف نخرج من أسر الليبرالية أو إتباع الآباء ؟ في قضايا المرأة والتعددية الثقافية والأقليات، وتفعيل دور الإنسان الفرد في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحماية البيئة ونوع الحياة على الأرض، والدفاع عن حق الحياة واللغات وكرامة الشعوب ضدّ هيمنة الرأسمالية، وواجب الاستقامة في السلوك والأخلاق وتوحيد الله وقراءة القرآن، والإبداع في تجديد العلاقة بين الفرد والجماعة السياسية، بين التنمية والحرية والعدالة، بين الإنسان والكائنات الحية والميزان، والضرورة الحيوية لاستعادة المواطن والوطن من أسر السلطة.
إذا كانت الدولة هي التي تصنع تقدم الشعب في الغالب، فقد كانت عندنا فاشلة، سواء في طريقة عملها في السلطة، غياب الحريات والمشاركة، أو في إدارتها للشأن العام دون رؤية علمية ولا فعاليات اجتماعية، واكتفائها منذ عقود بوظيفة النهب وأجهزة الأمن الهمجية، مما جعل دولة المسخ معادية لكل اختلاف أو تمثيل أو إبداع ومحارِبة للمجتمع الأهلي، وما نتج عن ذلك من ظلم وشرّ. "الدولة المسخ"، أي العهر بالمال وبالحكم، واستغلال المناصب الحكومية والوظائف العامة لتكوين الثروات، والرشوة والصفقات، وغسل الأموال عبر المصاهرة و"الأسماء المستعارة"، في مجالات الإعلام والزراعة والإسكان والأراضي والبنوك والمنشآت السياحية، وتحويل البلاد مقابل عمولات رخيصة إلى سوق مستباحة للشركات الأجنبية، ودفع كلّ هذه الأموال الهائلة إلى الحسابات السرية في الخارج، حتى أصبح سرّ الثروات أهمّ وأخطر من السرّ العسكري.
إنّ "الدولة الشريرة" ليست نتاجا لميول أفراد أشرار قد يتم استبدالهم بأشخاص آخرين، بل هي انعكاس للتناقض بين الخير والشر الموجود داخل كل فرد، وللتناقض بين المجتمع الأهلي والملأ الفاسد (قارون وهامان وفرعون)، وانعكاس للتدافع بين المجتمع المُنتج وأقلية النهب والاحتكار.
توليد القدرة على التداول السّلمي للسّلطة هو شرط الحرّية السياسيّة، لنبني مجتمعا يحيا بالمشاركة والكفاءة، وتنمية الوعي الأهلي بمسائل التّنمية الإنسانيّة القائمة على تبادل الخبرات البشريّة، وأن لا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، والحفاظ على الأرحام والتعاون على البِرّ، وحماية حقوق النّاس... ليتمتّع بها الجمعُ والأفراد.
إنّ لبّ مشكلنا السياسي في المرحلة السابقة هو التناقض المجرم بين الدولة والمجتمع الأهلي.
"التأسيس" الفكري والثقافي الآن، لحرية التفكير والتعقّل وحفظ الكرامة والحقوق، وللعدل بين الرجل والمرأة وأوّلية الانتماء لنفس واحدة ولشعب واحد، وتشجيع المبادرات الفردية والأهلية لحل القضايا الحياتية وأمور المعاش في السلم أو وقت الأزمات. التعرّف على ماذا يملك المجتمع من ثروات ؟ وما هي احتياجات كل فئة أو جهة ؟ وتشبيك الكفاءات ودعم كل مبادرات المجتمع الأهلي والمدني في مواجهة "الدولة" و"العولمة". ابتكار الحلول لمسائل الجنس والعائلة والزواج وتثقيف المستهِلك، ودعم المشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، ومسائل خلق الثروة، وغير ذلك من الأعمال المتعلقة بحاجات الناس، والثقافة والترفيه، والعمل الدائم على رفع مستوى الشعور بالوحدة والتعاون في وعينا وحسّنا الفردي والجماعي. دعم ونشر جمعيات ومؤسسات المجتمع الأهلي، لرفع مستوى الوعي والنشاط في كافة المجالات، وتوسيع المسئولية والمبادرة وإذكاؤها بالخبرات دفاعاً عن مصالح الناس. أي الربط المتواصل بين التغيير الداخلي للإنسان، وهي مسؤولية تقع بالكامل على عاتقه، وبين المتغيرات التي تحدث في مُحيطه، سواءٌ سلباً أو إيجاباً. (الإنسان القرآني الذي يجتث القابليّة للاستبداد والإفساد من عقله وقلبه وجوارحه وسلوكه).
"مجتمع أهلي" يقاوم نهب "نخب الفساد والظلم" ويقاوم "التّدمير الأجنبي"، مجتمع يأخذ كتاب الله بقوة ويعدّ العُدّة ضد الظلم والفساد ويبني المدينة والدولة المدنية، فيمارس المجتمع الأهلي دور الحماية الذاتيّة لوجوده من الانهيار والتفكّك أو الاختناق والموت جوعا ومرضا، وتنظيم مقاومة مدنية فعّالة ضدّ أيّ ظلم أو فساد، ومعرفة السياق العالمي وموازين القوى فيه وحاجيّات المجتمع الذّاتيّة، وعدم تجاهل المصالح العليا للفقراء والمستضعفين والمهشمين، خاصّة وحالنا اليوم يتميّز بغياب إستراتيجية واضحة تفصّل الطّريق وتوضّح الرّؤية في مجالات التّغذية والتعليم والدّفاع والتنمية.
إنّ المصير اختيار يتقرّر في النفوس، قبل أن يحدث في الأرض أو يأتي من السماء، ف "ما بقوم" مرتبط ب "ما في أنفسهم"، وتغيير ما بالنفس مهمّة الإنسان. إنّ أداء الواجبات هو الطّريق الوحيد للحصول على الحقوق، في هذه الحياة الدّنيا وفي الآخرة، والعمل على بناء "الإرادة السّياسيّة" المشتركة، التي تدفع بملايين السّواعد العاملة والعقول المفكّرة الصّالحة في بلادنا، نحو الهدف الجماعي في التنمية والحرية والكرامة، ولكي نحلّ مشاكل تأخّرنا عن تلبية حاجاتنا نحن الحقيقية والهائلة، فيحقق المجتمع الأهلي "رحلة التغيير الذاتي" والعمل على أن الحضارة تعاون وبناء وهندسة وكفاءة وخبراء ! وأنّ العمل هو الذي يفتح الأبواب المغلقة، ويزيل السدود والحواجز ويرفع الحصار.
الإفادة من تبادل الخبرات الكثيرة الناجحة والمتطورة، في أمكنة عديدة من العالم، مع الذين "يدعون إلى القسط"، في كل القارات، والحكمة ضالّة المؤمن أنّا وجدها التقطها فهو أحق الناس بها، فهناك أنهار من أفكار وبرامج وخبرات وتجارب وموارد وطاقات يُمكن الإفادة الكبيرة منها، في توليد الطاقات المحلية بوسائل قليلة، وحل قضايا حقيقية بتمويل محلي متواضع، وخبرات إنسانية عالمية في مناهضة "العولمة" ومناهضة الحرب، والتجارب الناجحة في الاقتصاد التبادلي غير المسعّر بالعملة SEL، وفكرة التعاون والتفاعل حول قضية معينة ومحدّدة بغض النظر عن الاختلاف الذي يمكن أن يوجد في القضايا الأخرى.
كيف نقيم الميزان والأنس بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة ؟
الإسلام ضدّ الفقر وضدّ امتهان كرامة الإنسان، وقد جاء أيضا لتحرير عقول الناس، ولكن ما يحدث في كثير من الأحوال هو العكس من ذلك تماما، حيث يستخدم الدين كباعث على الجمود والتردي في هاوية التقليد الأعمى، واستخدامه كسلاح يشهر في وجه الآخر أيّا كان وجعله سببا دائما للشقاق والصراعات، والمشكلة تكمن في الممارسات والتقاليد غير المبرأة عن الهوى في غالب الأحيان، والتي تحجب الرؤية وتمنع الإبصار والتبصر.
أليست واجباتنا الأولى هي، الصّدق ضدّ الكذب، الأمانة ضدّ الخيانة، التّبليغ ضدّ الكتمان، البصيرة ضدّ الجهل، العلم والذّكاء ضدّ التّهوّر، والشكر لله ضدّ الجحود ؟ سواء في الآفاق أو في أنفسنا، ليس في الخلق أثر للعبث، ولا خطأ في الكون والوجود... فليعرف كل فرد لماذا يحيا ؟ وما الهدف من الخلق ؟ التّوحيد هو تحقيق القرآن في حياة الأفراد والجماعات ضدّ الظّلم بأنواعه وضدّ الفساد بأقنعته وأسلحته المختلفة، وإنّ كثيرا من النّاس ليظنّون بالله تعالى ظنّ السّوء !! ولا يسلم من ذلك إلاّ من تدبّر القرآن وتعرّف على آياته. الوحي جاء ليعرّفنا بخالقنا سبحانه وتعالى (لا كما تتحدّث عنه الإسرائيليّات)، وعن تجربة الإنسان كعالَم بكامله مع ربّه ومع محيطه الخارجي ومع نفسه، وعن تجارب الجماعات والأنبياء ضدّ الظالمين والمستكبرين وادّعاءاتهم الاجتماعية والتاريخية، ولم يأت كحزمة حدود ونواهي. ديننا هو إسلام العمل الصّالح لتغيير ما بأنفسنا وما بواقعنا والجهر بالقول. ليس الإيمان وراثة، فالتّكليف الإلهي هو لفرد عاقل حرّ ومسؤول وليس لصبيّ أو مجنون، أو لتابع آبائه وعشيرته فيكون مثلهم إيمانا أو كفرا، سفيها أو عاقلا، عاجزا أو قادرا.
الإنسان حبيب الله وخليله، مخلوقه وكليمه، بدليل إرسال الوحي إليه، وجعله في قلب الكون، وتسخير ما في السّماوات والأرض له، وتكريمه في البر والبحر، هذا وضع الإنسان في الحياة كما بيّن لنا القرآن الكريم ليثق الناس بأنفسهم ويعرفون عظمة مكانتهم. احترام الإنسان روحًا وجسدًا، وضمان حقّه في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمحبّة... منذ الولادة حتى لحظة الموت، لكن بسبب الاستبداد والفساد صرنا من أكثر المجتمعات التي تُعاني من التفاوت الفاحش بين الفقراء والنّاهبين، بين الجوع وعهر الاستغلال. واجبنا اليوم أن نقدّم للناس رؤية قرآنية بلا غبش، ونذكّرهم بأيّام الله، وأن نتقدّم أمامهم لمواجهة عدوّهم من ظلم وفقر وجهل.
القرآن جاء للإصلاح في الأرض ومواجهة الإفساد فيها... ليحرر الإنسان من الأسر "الطبيعي" أو الاجتماعي أو السياسي، ليحثنا على واجب التعاون والمشاركة في الأفكار والأموال، وليُبيّن لنا وجود قوانين لبقاء أو فناء المجتمعات وتطورها: لا يمكن وجود حياة كريمة في مجتمع مبنيّ على الهلاك، أي غياب أصل العدل فيه.
أهم أصول الإسلام : إقامة علاقة مباشرة بين الإنسان وربّه دون أيّة واسطة، فلا بُدّ من إصلاح الخلل الذي أصاب هذه العلاقة في زمننا المتأخّر، ورفع الوصايا والحواجز، سواء الموروثة أو المبتدعة حديثا. أم على قلوبٍ أقفالها ! لنكسّر الأقفال... ونحطّم كل ما يرسّخ التخلف والمرض والعهر، سواء في التعليم أو السلوك اليومي، سواء في النظر أو العمل، وكل ما يمنع العلم عن الناس أو يهدم العقل، وكل ما يمنع عنهم تعلم المداواة والبرء من الأمراض، وكل ما يمنعهم من النظافة وحسن العيش وطيّب الكلام، والتصدّي بإحسان لكلّ من يفتن بين الناس أو يسعى لتفكيك وحدة المجتمع الأهلي وشق صفوفه، وتفريق عامته وإشعال البغضاء بينهم.
تجب معرفة الإسلام من القرآن بمساعدة معجم جيّد للغة العربية، وممّا صحّ من السنّة بدليل قطعيِّ الدلالة متّصل السند بالله سبحانه وتعالى، ومن معرفة منهجية لسيرة الصالحين ووقائع التاريخ وحوار الأفكار، وإلاّ سرنا والعياذ بالله - في طريق الشيطان ونحن نظن أننا نسير في طريق الرحمان. المعرفة بالحوار والجدل بالتي هي أحسن، وبالتفكّر... وتقبُّل التساؤل والحيرة، ودعوة النّاس بصبر وعلى بصيرة، وتأكيد الدّعم لحقوق الناس التي يكفلها القرآن الكريم لكلّ إنسان دون نسخ أو مسخ. كرامة الإنسان كإنسان، واستعادة كرامة المرأة المسلوبة ظلما وعدوانا، في مؤاخاة مع كرامة الرجل، وتحرّرنا من هوامات التقاليد اللاإسلامية المكبّلة والغادرة التي كلّستها عادات الآباء والقبائل. واستعادة الأنس بين المساجد وبين التنمية المدنية، بتفعيل دورها في التنمية المحلية والدفاع المدني (إضافة للعبادة)، بدعم المبادرات المحلية الإنتاجية وتنمية الفطنة الاجتماعية وتعلّم القرآن، والنباهة والحسّ بالتاريخ، فتثري مشاركة الفرد والمجتمع الأهلي في الاقتصاد المحلّي وفي النشاط الأهلي. استعادة النشاط الاجتماعي في كل مسجد، مهما كان بناؤه متواضعا وعدد المصلين فيه قليل، هو أحد أهمّ نقاط القوة لشعبنا، ومن أعظم المكتسبات لبلادنا، وهي من أهم مراكز التقاء المجتمع الأهلي. التوصّل بعد انقطاعٍ طويل إلى "عهد مشترك" يمثّل حدّا أدنى للإجماع ويُؤسّس للولاء، يبدأ ب "ألاّ نشرك بالله شيئا وألاّ يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" ويدفع للتعاون في حلّ المشاكل المحلية اقتصادية كانت أم اجتماعية. مساجد تستعيد "الفصحى" لتوحيد لغة التلقين والمعاش، لغة التعليم ولغة الحياة، لغة القرآن ولغة العلم والعمل، فيتوحّد الإنسان ويُحقّق مزيدا من الحرية الاجتماعية، ويتدرّب محليا على مواجهة المخاطر كالأوبئة والكوارث الطبيعية أو الاقتصادية، دفاعا عن الحياة وحماية لأعراض الناس وثرواتهم وخياراتهم.
مواجهة المسائل التي يتحدّانا بها هذا العصر كقضايا المال والتّخريب الاستعماري الجديد، القضايا الجنسيّة ومحاولات تدمير الأسرة، قضايا البيئة وتخريب البرّ والبحر والهواء، وضرورة تثبيت الدّيمقراطيّة بممارستها في كل حال وحين، وحق التّواصل والحوار، والمشاركة مع كل الشعوب في المجابهات العينيّة للظلم العابر للقارات، وتحريم الخوض في مسائل لا تفيد نهضة الأمّة بتجنّب المعارك الجانبيّة أو التي لا تعمّ بها البلوى في هذه المرحلة الأخطر من تاريخنا. والجهر بإنكار المنكر، كُلّ حسب همّته وإمكانيّاته، ومحاربةُ الجيمات الثلاث: الجور والجهل والجوع. باسم الله ومن أجل النّاس ومصالحهم العليا، ضدّ فرعون وهامان وقارون والنّاكثين، ضدّ الظلم والإستحمار والاستغلال والتدليس، ضدّ الاستبداد والأحبار والمترفين والمنافقين. إنّ التّاريخ البشري هو تاريخ الصّراع ضدّ الظلم والاستكبار، بأبعاد جديدة في كلّ مرحلة، وضدّ كلّ إعادة إنتاج للظّلم ونشر الظلمات.
التّوحيد والعدل، يعني عمليّا القضاء على الشّرك في السّلوك العملي والخُلقي للأفراد وللجماعة، أي بناء مجتمعات بلا قهر ولا تسلّط ولا استغلال. "لا إله إلاّ الله" تُحرّر شعور الإنسان وواقعه من كلّ القيود والسّلاسل الاجتماعية والسياسيّة والمادّية... تُحرّر الفرد من كلّ أسوار القهر. نقرأ القرآن ونهتدي به لمواجهة مشاكل النّاس كما هم في هذا العالم وهذا العصر (لا مشاكل عالم وعصر آخر) ونستعدّ بالقرآن ليوم الحساب.. يوم تدعى كلّ أمّة لكتابها.
والقرآن يؤكّد لكلّ قارئ ولكلّ مواطن يتلوه، واجب التّفكّر، التّدبّر، التّعقّل، وهو يدعونا لما يُحيينا (ولن تتكشف معاني الحقّ وأسراره قطّ للذين يتّخذون القرآن مهجورا.) غاية القرآن هي رفض آليات القهر والنهب، ورفض ثقافة السحر والحظ وإتباع الآباء. يدعونا إلى النظر في أنفسنا وفي كتابنا وفي العالم، ويحثّنا على الاجتهاد ورفض الشرك والتوسّط والأسرار والتقاليد وكل ما يُعارض التحرّر والعدل والعقل من ظلم ووهم وظن ولُبس في الرؤية، ويؤكّد على الوضوح والبيان في النظر والعمل.
واجبنا الجهر بالقرآن ضدّ الظلم وضدّ الفساد، واستعادة التغيير الجذري الذي أتى به القرآن الكريم منذ كلمة "اقرأ" (...) بالإقبال على تفهّم الآيات في الكتاب وفي النفس وفي الآفاق. "اقرأ" (...) الكلمة الحضارية التي أدهشت النبي الأمّي، وحفزّت أصحابه، وأثارت عليه العالم. حضارة التوحيد، بتفعيل قراءة وفهم المسلمين للقرآن الكريم، وتحويل العالم إلى "دار الشهادة" (وتجاوز التقسيم القديم إلى دار إسلام ودار كفر، والذي لم يعد مطابقا للواقع منذ قرون)، فنكون الأمّة الشاهدة على الناس. الجنس البشري كله أبناء آدم وحوّاء وهذا معنى السلام الحق. أي أن نكون شواهد على الاستقامة ومكارم الأخلاق وتجسيدا للعدل. إنّ مفهوم "المداولة" القرآني للحضارة ولأيّام التاريخ، يعني أن حركة العالم مستمّرة لا تتوقف... إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومَن عليها. حضارة "اقرأ" والدهشة النبوية المعرفية أمام هذا "الأمر"، دعوة لقراءة الكتاب ولقراءة آيات الكون وللآيات في أنفسنا، وتحويل هذا الأمر... إلى برنامج عمل يشارك في تحقيقه المجتمع الأهلي كفرض عين على كل رجل وامرأة. الأمّة الشّاهدة والعمل الصّالح، حتى نكون خير أمّة أخرجت للناس.
كيف نقيم نظاما عادلا في عالمنا وعلى أرضنا ؟ الأسس الصحيحة هي العدل السياسي والعدل الاجتماعي والعدل القضائي والعدل بين الرجل والمرأة (...) وقد أصابتنا الكارثة، في تاريخنا، عندما أخرجت "الثقافة العامة" العدلَ من مجالات السياسة والاجتماع والقضاء والأسرة (...) وراحت تتواكل على العدل الأخروي، وهي كلمة حقٍّ أريد بها باطل، أي السكوت لمصلحة الظالم ومَن يجلد ظهرك ويسلب أموالك، في حين أن العدل هو أساس المجتمع القرآني في هذه الحياة، وشرط النصر في واقعنا الحاضر...
إنّ افتتاح القرآن العظيم ب "بسم الله الرحمن الرحيم" وكلّ السور (عدا "براءة") إنما يبيّن ومنذ البداية أنّ السمة الجوهرية لهذا الدين تقوم على الرحمة والمغفرة والتسامح بين البشر، فطبعَ المسلمين بطابع الرحمة والتراحم والتعاون (من المفيد الانتباه إلى أنه لم يفتتح السّور بأحد أسماء الله الحسنى الأخرى)، فالله سبحانه وتعالى بَعث خاتم رسله، رحمة للعالمين، ليجمع الفرقة وليزيد الألفة، ولم يبعثه ليفرّق الكلمة وليتحرش الناس بعضهم ببعض، بل لتحقيق الأخوّة وليخرِج الناس من عبودية العباد والأغلال التي تكبّلهم إلى عبادة الرحمان الذي خلق كلَّ شيءٍ ثم هدى، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
أيّة رؤية للديمقراطية ؟ الديمقراطية الليبرالية هي نموذج مناسب لصفقة (...) الدولة المهيمنة التي تقبل تغيّر مقاعد السلطة، لكنها لا تقبل العدل الاجتماعي ولا تحديد سلطتها في مواجهة ميلها الطبيعي للتغوّل، في حين أنّ الديمقراطية الأهلية \ الجمهورية (استعادة فكرة "الجمهورية" كتعبير سياسي عن جماهير الناس) تؤمن بالتعاون وبفكرة المنفعة العامة التي "تتجاوز" مجرد قسمة مقاعد بين المصالح الفردية المتعارضة، المواطن الجمهوري يشارك في المجال العام بهدف التعاون على البِرّ والرحمة، وينظر للسياسة بمنظور اجتماعي وحسّ ثوري بالمسئولية الأخلاقية، فيصبح الفعل الديمقراطي أقرب للديمقراطية الأهلية، ويستمد طاقة نوره من عقيدة الشعب ومشروعيته، مشكاة نور المواطنة لا "خطر الظلامية" كما يزعم الظالمون من الليبراليين الجدد الذين أضاعوا مفاتيح تاريخهم ويحتمون بسلطة الدولة أو حتى بالمحتلّ، والذين يريدون أن يطفئوا نور الله في الإنسان ليصبح محض مستهلك للسلعة وللهيمنة. إنّه لا دولة ناجحة بدون هوية وإدارة مسؤولة وانتماء، ولا ديمقراطية حقيقية بدون عدل وحرية، ولا إنسان بدون الرحمان. الإنسان فيه أبعاد مطلقة لا يمكن اختزالها في الطبيعة وحدها، ومن هنا ضرورة التعامل الاجتماعي والتاريخي مع متغيرات عودة الدين للمجال العام، وعودة القيم إلى المجال السياسي والاقتصادي، وضرورة الخروج من ثقل الإيديولوجيات الحداثوية وصناعة الأوهام، ونقد فصل العقل عن الوحي، والواقع عن الغيب، خاصة وأنّ الإسلام يمثل أفقا تقدميًّا وديمقراطيًّا.
ما يرهبنا، في مرحلتنا التاريخية وواقعنا المعاصر، ليس شبح القرون الوسطى، مع العلم بأنّ صور هذا الشبح تختلف من مجتمع إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى، بل إنّ ما يرعبنا هو النظام العالمي الجديد بنهب شركاته المتعدّدة الجنسية وحروب تدميره الشاملة، بخطاب إنسانيته المزدوج وقدرته على التدمير بالصواريخ والطائرات بدون طيّار، بإغراقنا بالتلوّث البيئي والسلع والأوبئة، بتغريب الإنسان وتفقير الثقافة والمعنى.
مرحلة ما بعد الحداثة وهيمنة الرأسمال العالمي وإحياء التديّن التحرّري المقاوم، مع تراجع العلمانية على أرض الواقع السياسي للشعوب شمالا وجنوبا، تطرح إشكاليات مثل إعادة التأسيس للرابطة السياسية بما يضمن الحريات العامة والعدالة الاجتماعية داخل المجتمع الواحد وفي العالم، وتشابك قضايا الثقافة والأخلاق والسياسة والعمل، وتبقى المهمّة على سلّم الأولويات: تجاوز الإعاقات الذاتية والضغوط الخارجية المضادة لحرياتنا، والتوترات الاجتماعية والسياسية والنّفسية الموروثة عن الاستبداد، ومواجهة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف أصلا بمفهوم "المشاركة" تحت سقف الجوع والحرمان من أبسط مقوّمات الحياة الكريمة، والخروج من ثقافة الإحباط والثرثرة، واستعادة "الفرد الإنسان" كقيمة ومنع هدر كرامته التي غابت في وعينا ولاوعينا الجمعي والفردي.
عدوّ المجتمع الأهلي هو نظام "خلايا الفساد والاستبداد" وحلفائه في الخارج، وأجهزة الأمن السياسي التي تحميه، هذا النظام يعمل دائما لتصفية أي مصدر للخطر على المصالح الفاسدة قد يأتي من القوى السياسية أو المجتمع الأهلي، وكلّ همّه إحباط ثقافة الحرية في المجتمع وإبطال "مشروعية الشعب". نظام دفع الخريجين الجامعيين إلى قيعان المدن والأرياف، وحاصر أية إمكانية لميلاد الفرد الحرّ كفاعلية اجتماعية وسياسية وقانونية تبادر بالأفكار والإنتاج والفعل السياسي، ومنع ظهور مؤسسات المجتمع الأهلي الفاعلة والمدنية، ويسعى دائما لتحويل "الحُكمْ" إلى نظام إدارة الطوارئ... وسط أرياف متصحرة ومدن ريفية وأحياء مليونية للمهمّشين، وإجبار الناس على تضييع الحياة والطاقة في التحايل على البطالة وأزماتها الكثيرة أو الهجرة، ومن أهمّ خصائص "الدولة المسخ" سعيها لتأميم الصراع الاجتماعي بالتخويف من الفراغ الأمني والأزمة الاقتصادية...
إنّ خلايا الفساد والاستبداد هي قوّة شرّ مُسلّحة، تنهب المجتمع الأهلي "كلّه" وتُرغم الناس على الموت البطيء، وتدفعهم دفعا إلى اليأس المهين في الداخل والخارج. أقلّية الفساد والظلم هذه جماعات اجتماعية صغيرة ولكن تحتل مواقع خطيرة تهيمن و"تتحكّم" في النسيج الاجتماعي والإداري للبلاد، فهي صغيرة ولكن مصمّمة ومُنظّمة، وتخدم في ذات الوقت مصالح أجنبية فاسدة. وقد أثبتت التجربة الجزائرية والفلسطينية، أنّ إيمان بعض عصابات "النخب الحديثة" بالديمقراطية هشٌّ وضحل... بل أنها على استعداد لتوريط "المؤسسة العسكرية" أو أيّ قوّة أجنبية ضدّ المجتمع الأهلي، للحيلولة دون وصول خيار شعبي للسلطة متى حصل على أغلبية ديمقراطية.
هناك في بلادنا إرادة قوية داخلية مرتبطة بإرادة أجنبية قوية، تعمل على إدامة التأزّم والخوف، وتعميق التفكّك الاقتصادي والاجتماعي، وإدامة الفشل السياسي لمجتمعاتنا. الصراع الآن والتدافع بعد ثورة الكرامة، هو بين نخبة الشرّ والمجتمع الأهلي.
كيف نستعدّ نفسيا وعقليا وعمليا، لمواجهة "ثالوث الفساد"، خلايا النهب وأجهزة القمع والناقمين على المجتمع الأهلي وثقافته، ثالوث فاسد يُصارع المجتمع الأهلي على أرضنا لنهبه وقهره، بل يعمل وفق خطط الاستعمار الجديد على إلغائه لصالح دويلة "انفتاح" تدّعي لنفسها صورة الدولة وهي في الحقيقة لا تملك إلا السرقة والبوليس وحشيش الحداثة.

إنّ نظام "المنافسة" الذي بناه النظام الرأسمالي وعمّمه، وثقافة "الربح المالي"، أي بمعنى صراع كلّ واحد ضد كلّ الآخرين... حوّل الحياة ولقاءاتها إلى معركة تُحدّد الرابح والخاسر بمعايير مالية وعنصرية لا مبالية بمصالح الناس العليا وبثقافاتها، ولا مبالية بالحياة وتوازنها البيئي، وبما أنّ (سفينة الأرض) في زمن العولمة باتت صغيرة جدّا حيث فعل كل واحد، سواء كان فردا أو دولة أو جماعة، يؤثر على كل الناس، وعلى نوع الحياة في كوكبنا، فإنّ الخيار الرّأسمالي وما ينتج عنه من كوارث، يدفع المجتمع الأهلي للتساؤل عن كيفية المقاومة والدّفاع عن الحياة. خيار اقتصادي مغاير يهتمّ "بنوع الحياة" لا شراء كل جديد، حيث الأولوية لوسائل النقل الجماعية والنظيفة، الضمان الصحّي للجميع، التعليم المجاني حقيقة والإلزامي حتى سنّ 16، العون والرعاية للقاصرين والعجّز والمعاقين، الدفاع عن الكائنات الحية سواء كانت حيوانات أو نباتات أو فقراء جائعين، الاهتمام بالماء ورعايته وصونه، وحماية الأرض جوفها وتربتها ومناخها. العمل على توفير الأكل واللباس والسّكن وحقّ تكوين أسرة وحقّ العمل والحقّ في العدل... لكلّ واحد وللناس جميعا. مجتمع مقتصد ومتعاون، رحماء بينهم أشدّاء على المفسدين في البر والبحر والجوّ. مجتمع أهلي يؤمن بالله الخالق الكريم، يحمي الحرمات الفردية والجماعية، ويحبّ الأرض وتنوع الحياة.
النظام الرأسمالي ظالم ومُفسد لمُقدّرات الطبيعة، ويعمّق الفوارق الاجتماعية الفاحشة، كوارث متلاحقة في البيئة وعلى رؤوس الفقراء، اضطرابات المناخ واستباحة تنوع الحياة، إبادة أنواع كثيرة من الحيوانات والنباتات إلى الأبد، حروب من أجل السيطرة على النفط وقريبا من أجل السيطرة على الماء (الماء العذب ثروة تقِلّ يوما بعد يوم بشكل خطير ومتواصل نتيجة تحويل وجهة الأنهار والاستهلاك المهول للمياه في غير الأساسيات) وتزايد الفوارق الفاحشة بين الشمال والجنوب، وبين حفنة من الأغنياء وملايين الفقراء في كل بلاد، المساس بشكل خطير بمقومات الحياة : الهواء والماء والشجر، صناعة الأوبئة كأنفلونزا الطيور والخنازير... والقادم أخطر، والاحتباس الحراري والغازات السامة، والقضاء على التوازن البيئي وتهديد تنوّع الحياة. إنّ أيّ مشكلة أو مأساة في أي مكان تأثّر في كل البلدان فعالمنا تحوّل، أكثر من أي وقت مضى، إلى "سفينة" بكل ما تعنيه هذه الكلمة من خطورة وحميمة وشعور بالكارثة إذا استمر هذا الإفساد المنظّم للشركات المجرمة المتعددة الجنسية والتي لا يهمّها إلا زيادة أرباحها المالية !
نرى في بلادنا اليوم ضعف القطاعات الإنتاجية، التفاوت الحاد بين المدينة والريف وبين الجهات، تصحّر الأرياف وترييف المدن، الفساد الإداري المعمّم، الدعارة كظاهرة اجتماعية تتوسع بشكل مهول، ضعف وفقر العلاقات الاقتصادية والاجتماعية الأفقية مع البلاد العربية والإسلامية ومع بلاد الجنوب، اقتصاد الربح السريع، الخضوع للبنك الدولي والاستثمار السياحي، الخلل في النظام الاقتصادي العالمي ونتائجه الكارثية على اقتصادياتنا الضعيفة أو"المفقّرة" بفعل فاعل، ضعف القطاع الخاص لنشوئه في حضن الدولة العائلية، ضعف القدرة على تحديث الاقتصاد الذي يمكّن من الدخول في اقتصاديات المعرفة المتقدّمة، ضعف الإصلاحات التنظيمية سواء في الاستثمار أو في التعليم. إنّ الدولة الاقتصادية الناجحة هي الدولة السياسية الناجحة، الدولة التي عندها القدرة على اتخاذ القرار، وتبنّي خيارات اقتصادية علمية والسّير فيها، وليس الدولة المسخ التي كل همّها الاستهلاك وأمن النظام المباشر ونهب الأموال !
ضرورة تعميق الجهود في جهتين متلازمتين، جهة الإعداد الأفقي للمجتمع الأهلي والمدني، وجهة بناء الديمقراطية والإرادة السياسية، حتى لا تكون أكثرية مجتمعاتنا مجرّد مستهلكة جاهلة خانعة غافلة متهافتة ومبدّدة لأوقاتها وثرواتها، ومنع سرقة ثروات المجتمع وتبديد أمواله، والخروج من الربا المحلي والعالمي المخرّب للاقتصاد، والقضاء على الفوارق الفاحشة في الرزق بين الأغنياء ووكلائهم والفقراء وعائلاتهم، والتصدّي لأكل مال اليتامى والمعوّقين، ورفض التفريط فيما بباطن الأرض لاقتسام العمولات مع الشركات المتعددة الجنسية، والاستنكار القاطع لقتل النفس بغير حق، أيّا كانت، أو تعذيبها وإيذائها، مع واجب رفض السكوت عن الظلم الواقع في فلسطين وفي بلاد الجنوب. إنّ عدم المشاركة السياسية أو السّلبيّة تصبح في لحظات الضّعف "الحضاري" خيانة لله ولرسوله وللمجتمع الأهلي، فالعمل السياسي والمدني واجب على كلّ مواطن ومواطنة بما تتطلّبه الأمانة والمسؤوليّة، ولا يخلو إنسان من "قدرة" معيّنة، والقدرة كما هو معلوم تُتعلّم وتُكتسب لمواجهة "طوفان" الفقر والظلم والمرض.
وجب التّدريب على الدّفاع المدني للكافة، حتّى يكون كلّ فرد رجلا أو امرأة مؤهّلا ومستعدّا، إذا ما جابهتنا كارثة سواء بيئية أو اقتصادية، عدوانا أو وباءا... والوعي اللازم بأنّ هذا التّأهيل ليس نافلة بل واجب، جهاد حقيقي لا "حديث النّفس". والفرد "العادي" لا يُسأل فقط عن عمله الشّخصي يوم القيامة، بل سيحاسَب أيضا عن مجتمعه، بناء على الوحدة بين الفرد ومجتمعه المستمدّة من معنى "التّوحيد"، فلكلّ أمّة حسابا جماعيّا عند الله إلى جانب الحساب الفردي لكلّ إنسان، ممّا يجعل مسؤوليّة المجتمع تقع على كلّ فرد من أبناءه. يوم تدعى كلّ أمّة لكتابها (...) شعور كلّ فرد بأنّه سيحاسب على مجتمعه وسلوكيّاته وأوضاعه كما سيُحاسب عن نفسه، يبيّن رسالة الاستخلاف ويربط العبادة والتّوحيد، بما يحقّق الحياة الطيّبة في الدّنيا للمجتمع الأهلي وفي الآخرة لكلّ فرد من أفراد المكلّفين بعينه.
تجديد الصّلة بالله سبحانه وتعالى، والمؤاخاة كفكرة دافعة يوميّا، للتأليف بين أعضاء المجتمع تأليفا يحمل معنى المشاركة في الأفكار والأموال... وفي هكذا رؤية قرآنيّة مفتوحة للنّاس بالخير والمؤاخاة، لا يشذّ إلى العدوّ إلاّ قليل ولا يشذ إلى الزّاوية إلاّ "الخوالف".
كيف نبني عقدا اجتماعيا أساسه فكرة الاستقامة والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كواجب مشروط بالعلم وبالقدرة ؟ عقد اجتماعي يجعل المدينة فضاء مفتوحا غير مغلق يستطيع أن يندمج فيه أيّ إنسان يسعى للخير، وحيث التفاضل هو التّقوى والتعاون، أي الإحسان وتحقيق الاستقامة في السّلوك، فيحقّق الفرد العمل الصّالح المرتبط بالآخرة والدّنيا. استعادة الكتاب الإلهي وقراءته بين النّاس "ليُحييهم"، فالقرآن لم يغادر شيئا من الموجّهات لفهم القوانين والسّنن التي تجعل المجتمع الأهلي ممسكا على الدّوام بعناصر القوّة المعنويّة والمادية إن هو تمسّك بالعروة الوثقى و"حضارة اقرأ". (والأمّة الشّاهدة حُمّلت أمانة الاختيار بين الاعتصام بالكتاب أو هجره والتفريط فيه، وللاعتصام شروطه وللتّفريط دركاته !)
قيمة العمل الصّالح، من أهمّ القيم الإسلاميّة التي تجعل النّاس يصنعون ما يحتاجونه من طعام وشراب ومسكن، وكلّ متطلّباتهم الصحيّة والدّفاعيّة والتّرفيهيّة في إطار من الحرّيات والاستمتاع بالطيّبات...
إنّ مشاركة المجتمع الأهلي في إنتاج ما يحتاجه، من طعام وشراب ومسكن ودواء وخدمات وأسلحة وترفيه والأوبة إلى القصد والاقتصاد، وإلى ما ننتجه بأيدينا وبأيدي الذين يشاركوننا نوع الحياة التي نحياها، ضدّ "الإستراتيجيّات المضادّة" العدائية التي تخنق المشاريع الوطنيّة في مهدها لتأبّد الهوان وتحبط النّاس، ولتنشر اليأس من أيّ أمل، بل لتجعلنا "عالة" ننتظر ونمدّ أيدينا للتّسوّل... في كلّ شيء، ممّا أوقع الأفراد والعائلات والمجتمع في عنت كبير ومهانة.
إنّه لا إسلام بدون محورية القرآن العظيم، فالبعد عن القرآن وتركه مهجوراً... في المعرفة والسلوك، في التديّن وإنتاج المعارف، هو سبب رئيسي للإعاقة الذهنية الجماعية، فلا بُدّ من إعادة التواصل اليومي والعملي مع القرآن الكريم. التصوّر القرآني للوجود والتاريخ يقوم على أنه خَلقٌ متجدّد، يزداد ويرتقي بالتدرّج، ضد النظرية المشبوهة ل "تدهور العصور" المتجاهلة لمبدأ العمل وتحمّل الأمانة. إنّ أعظم الخيانة هي خيانة المجتمع الأهلي، في حرّياته أو سلطاته السياسية أو أمواله أو أعراضه.
كيف يعرّف اليسار الإسلامي بنفسه على بصيرة وبما يخدم المجتمع الأهلي... والإفادة من الخبرات المحلية والعالمية... وتفعيل وتطوير آليات التظاهر والمشاركة ؟ والتنقّل، لغة وأدوات، من النخبة إلى الناس ومن الناس إلى النخبة، واحتضان وتفعيل ودعم وتشبيك واستثمار كل خبرات ومهارات العالمين، والحوار الهادئ... لأنّ معركتنا مع الشرّ طويلة ومريرة ! والصّبر على الانتظام في جبهة تتوحّد ولا تتفرّق "فتذهب ريحها".
"إنّ القلاع تؤخذ من داخلها" وكذلك تُسرَق الثورات... ومن المهمّ معرفة أنّ الصراعات الأفقية في الديمقراطية، حول البرامج والحلول للمشاكل، هي وحدها التي توفّر الشروط الضرورية للتقدّم الاجتماعي. إنّ المصلحة الإستراتيجية ودروس الماضي القريب يتطلبان عدم الرجوع لارتكاب نفس الأخطاء القاتلة عندما دخلت المجموعات القومية أو اليسارية أو الليبرالية في معارك متشنجة ودموية مع الحركات الإسلامية والتي لم تؤدي إلاّ إلى تغوّل السرّاق وقهر مجتمعاتنا بالفساد والاستبداد. التعالي على الشارع آفة السياسيين، والانجراف وراءه دون عقلنته هو طبع الانتهازيين، وبينهما مساحة واسعة مفتقدة لتيار فاعل ايجابي يقدم البدائل. من نحن وماذا نريد ؟ ما الذي يميزنا عن غيرنا، من حيث الرؤية والمصالح ؟ كيف نتقدّم من جديد نحو القرآن والديمقراطية ؟ بلا وجلٍ ولا خوف ولا تردّد، فغيابهما في حياتنا السياسية واليومية هو أصل المشاكل وأساسها. وكيف نشجّع المجتمع الأهلي على طلب العلم والتعلّم، وتبادل الخبرات والتعارف في محيط العالمين ؟ "إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم."
الشعب يريد (...) عِقدا اجتماعيا يقوم على فكرة الالتزامات المتبادلة والعهود، أي مبنيا على تصور واضح للعلاقة بين الحق والواجب والتراضي من جهة أولى، وتقبّل أسبقية القيام بالواجب على المطالبة بالحق من جهة ثانية.
رضا السمين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.