دُفعةً واحدة أصدر الطاهر بن جلون كتابين جديدين، أحدهما يحمل عنوان «الشرارة» ويتضمّن مقاربات لشرح دوافع وخلفيّات الثورات العربيّة، والثاني يحمل عنوان «بالنار» وهو عمل سرديّ بطله الشهيد محمد البوعزيزي. كتابان دفعةً واحدة، يعرف صاحبهما دون شكّ أنّ الكثيرين سيتساءلون: هل يستجيبان إلى رغبة الكاتب في الشهادة الفوريّة على أحداث عصره، أم يتجاوبان مع رغبة الكاتب والناشر في «تلبية» حاجة القرّاء؟! وهل يتفاعلان بسرعة البرق مع حالة مُلهِمة، أم يحاولان الركوب على موجة ثوريّة لم يبلغ عمرُها الشهورَ التسعة المطلوبة للحمل الكامل؟! مثل هذا التجاوب الفوريّ ليس مستغربًا من زاوية النظر الأوروبيّة أو الأمريكيّة، حيث لحرفة الكتابة تقاليد مختلفة عن نظيرتها في المشرق والمغرب العربيّين. وحيث لقوانين السوق مكانة حتى في الأدب. والأدباء هناك ليسوا الوحيدين في مثل هذا التجاوب الفوريّ. فقد لاحظتُ عند رحلتي إلى باريس قبل أسابيع أنّ بعض قنّاصي الفُرَص من التجّار سارعوا إلى تأثيث محلاّتهم بقمصان وأقلام وحاملات مفاتيح وحتى أغلفة هواتف محمولة تحمل ألوان الأعلام التونسيّة والمصريّة وتتزيّن بالعديد من الصُّوَر وتستنسخ شعارات المظاهرات والاعتصامات. انتهازيّةٌ تجاريّة مُستهجنة، على الرغم من ترسُّخها في سياق مهنةٍ شعارها الربح لا القِيَمُ. وفي سياق ثقافة منهجُها «تبضيع» كلّ شيء، وتحديدًا المشاعر. فإذا هذا يكفكف دموعه بينما الآخرُ يصنع من تلك الدموع «تذكارات» يعرضها للبيع! دون أن يرى عيبًا في تحويل رأس المال الرمزيّ أو العاطفيّ إلى رأسمال محض، حتى في ما يتعلّق بالألم والأمل! طبعًا، لا علاقة لهذا بكتابَيْ بن جلّون. فلا شيء يمنع أن يكون هذان الكتابان ثمرة هاجس فكريّ أدبيّ أساسًا. ولا أستبعد أن أعود إلى الكتابة عنهما ما أن أفرغ من قراءتهما، فهو صاحبُ أكثر من كتاب مهمّ، على الرغم من تبايُني الشخصيّ مع عدد من أعماله ومواقفه. المسألة لا تتعلّق إذنْ بشخص الكاتب ولا بعمليه الجديدين، بل بالجدل الذي أثاره ظهور هذين الكتابين في جملة كُتب أخرى بدت للبعض سابقة لأوانها، على أساس أنّ الثورات وهي تتشكّل، تقدح عادةً قريحة الشاعر وتُطلِقُ صوتَ المُغنّي وتُحفّز مخيّلة المُوَثِّق لكنّها تستعصي على غيرهم. كثيرون استقبلوا خبر صدور هذه الكتب بنبرة هجوميّة أريدُ مناقشتَها في هذه البطاقة، لأنّها تنطلق من مُسَلَّمَةٍ قابلةٍ للنقاش، تنظرُ باستعلاء إلى كلّ ما يُكتب أثناء الثورات، على أساس أنّه لم ينضج كفايةً ولم يُكتب على مهل. فكرة روّج لها الكثير من الكتّاب، ومن بينهم بيار ميشون الذي ظلّ يحاول تأليف رواية عن الثورة الفرنسيّة طيلة عشر سنوات دون أن يفلح في إتمامها، وحين سئل عن الأسباب قال: «ما أحاول مواجهته هو عجز الثورة الفرنسيّة عن إنتاج آثار فنيّة في مستوى الحدث. المشكلة أكبر من طاقتي وتلك المرحلة التاريخيّة المرعبة ترعبني بالمعنى الحرفيّ للعبارة... » قيل هذا الكلام بعد زمن طويل من الثورة. أمّا أثناءها فقد كتب الكثيرون الأقاصيص وألّفوا المسرحيّات ورسموا لوحات تخلّد الوقائع والأشخاص. لكنّ النقد نظر إلى أغلبها بعين الريبة، باعتبارها «لا ترقى إلى مستوى الحدث». ماذا تعني هذه العبارة تحديدًا؟ هل تعني أنّ الذاكرة لم تحتفظ إلاّ بقلّة من تلك الأعمال لأنّها لا تستجيب للمواصفات الجاهزة؟ وما الغريب في ذلك؟ الأصل في الإبداع الندرة والخروج على المألوف. والذاكرة لا تحتفظ إلاّ بقلّة من الأعمال الإبداعيّة، سواء تمّ إنتاجها أثناء الثورات أو في وقت آخر، بمناسبة معيّنة أو دون مناسبة. هل تعني أنّ أغلب تلك الأعمال كان مباشرًا أو توثيقيًّا أو تحريضيًّا؟ وماذا في ذلك؟ ألا يلعب التوثيق دوره؟ أليس التحريض مطلوبًا في حينه لرصّ الصفوف والتصدّي لمحاولات سرقة الأحلام والالتفاف على الأهداف؟ ثمّة تعميم مريب يكاد يفصح عن رغبة في جعل الثورات بكماء عمياء، لا نصوص توثّق لها، كي تُفْعَل بها الأفاعيل. وهو تعميم يتغافل عن الاستثناءات الكثيرة، أي عن النصوص والأعمال التي كُتبت على طاولة تتحرّك، وأثبتت فيما هي تشهد أو توثّق، قدرة الحدس والفطنة والموهبة على إنتاج المتعة واختراق اللحظة والنفاذ إلى عمق الأحداث دون حاجة إلى استقرار الطاولة وهدوء الأحوال وطول المسافة. الجماليّة جماليّات. وكم طوّرت الأعمالُ المكتوبة في قلب الإعصار الرؤيةَ الجماليّة السائدة قبلها. ولو ظللنا نبحث عن زوايا التصوير وتقنيات الإضاءة لما حصلنا على كلّ هذا الرصيد من مقاطع الفيديو والأفلام التي وثّقت للثورة عن طريق الهواتف الجوّالة وهي ترتعش في أيدي حامليها. فهل نحكم على هذه الأفلام بمقاييس حكمنا على أفلام كوروزاوا وكوبريك أم نشاهدها في سياق جماليّة مختلفة، هي جماليّة الفوريّ والعاجل التي قد تصبح غدًا، بدرجة أو أخرى، جزءًا من جماليّة السينما وهي تحفر مجراها؟