هم علماء، هم مثقفون، هم سياسيون، هم مؤرخون، هم أدباء، هم شعراء صنعوا الثورة لكن فقراء، وهم أغبياء وهم سفهاء وهم مفترون وهم كاذبون وهم متورطون، التهموا الثورة لكن أغنياء. تلك هي ثورة تونس ولدت بالصدق ووأدوها بالكذب، ولدت بأرواح ما يفوق الثلاثمائة شهيد وقبرت بشعارات من هم في الحكم ومن يطمحون اليه، فترى الراعي يعد، وترى الرعية تترقب، اذ تعددت السبل وغابت المناهج وأضحى من يشكو من مرض النقص الاجتماعي والطموح الى الكبرياء يصنع حزبا، فتشكل الحزب بين الزوج وزوجته، وبين الفرد وأبناء حيه، حتى أن الأحزاب قد وصل عددها الى ما يفوق التسعين حزبا، تعيش أملا في افتكاك السلطة وبسط النفوذ على أبناء هذا الشعب الأبي، وكأن التونسي الذي ارتبط تاريخه بالاستعمار الخارجي وتحرر منه مكتوب عليه ان يتورط ثانية في استعمار داخلي لابدّ ان يتحرر منه أيضا. قطعا تلك هي الحقيقة، وليس من باب احباط العزائم أو كبح الجماح بل ان واقع مجتمع ما بعد الرابع عشر من جانفي يفرض على كل تونسي غيور ان يتوقف ليتأمل في مستقبل هذا الشعب، حتى لا يستبدل استرجاع الأموال المنهوبة بالتلهف على القروض والهبات من الدول الأجنبية والصديقة، وحتى لا يعوض انتفاع الشعب التونسي واستمتاعه بخيرات بلاده بكدّ وجهد وعسر من أجل تسديد تلك القروض او منح فرصة للقوى الأجنبية في استخلاصها بطرائقها الخاصة. نعم السؤال الوحيد المطروح علينا في هذا الوقت وفي خضم تهافت المصالح وتشابك الرؤى، هو هل ان الثورة التونسية هي ثورة شعب أم ثورة على الشعب؟ انه من الطبيعي انه لا يمكن المقارنة بين ثورة الشعب والثورة على الشعب، اذ في حين تستمد الأولى جذورها من مشروعية المطالب والتواصل مع التاريخ والقيم الاجتماعية، تكون الثانية غايتها نهب ثمار الأولى والتلاعب على عواطف الناس وضمائرهم ببعث الأمل فيهم وطمأنتهم بل وتنسيتهم عن شواغلهم الحقيقية لغاية الاستحواذ على تلك الثمار وصنع وتخيّر وسائل قمعهم وإسكاتهم فيكون الحكم، حكم تهدئة الخواطر، ويكون الاعلام، إعلام الأخبار المقطوعة والصور المحجوبة، وتكون الإدارة إدارة الاستجابة للمطالب في الوجه، والاستدارة عنها في الخفاء الى أن يصل الأمر الى حد الهروب والتهرب من مواجهة الشعب فترى المسؤولين يأتون الى مواقع عملهم في الظلمة والصباح الباكر، وترى الوزراء يدخلون الوزارات من أبوابها الخلفية، لا حبّا في العمل وتفانيا فيه، بل خوفا من مواجهة الحقيقة ومحاسبة الشعب لهم، بتذكيرهم في دماء الشهداء. فإذا كانت المقارنة لا تجوز بين نوعي الثورة المشار اليهما فإن المقاربة بينهما ممكنة، باعتبار ان النتيجة واضحة لكل تونسي وطني، وهي ان دماء الفقراء تجففها قرارات الأغنياء: فأين شباب حي الزهور بالقصرين وأين شباب تالة وسيدي بوزيد والرقاب وقفصة وقابس وتطاوين والوردانين وحي التضامن بالعاصمة، كلهم قهروا سابقا وقتلوا وهمشوا حاضرا ليعيش شباب المدن الراقية في راحة وطمأنينة باسم هيبة الدولة وتحقيق الأمن وانتعاش الاقتصاد، بماذا؟ بلجم الأفواه وتفريق التظاهرات والمسيرات المنادية بحماية الثورة بالغازات المسيلة للدموع وبالعصي الارتعاشية، كل ذلك ليركن الفقير في كوخه، ويهدأ بال الغني في قصره، وما غناه إلا من سطوه على أموال الشعب قبل الرابع عشر من جانفي، اذ فعوض محاسبته وتقديمه للقضاء نجعل له منافذ عدة للمحافظة على تلك الثورة والإفلات من العدالة. ٭ بقلم الأستاذ شاكر علوان