تصارعت في المدة الأخيرة مع قلمي فسألته من أين ستبدأ من اليمين أو من اليسار من الوسط أو من الأعلى أو من الأسفل وفي آخر الأمر أقنعته بأن يريح نفسه لفترة حتى يتبين له الطريق كي لا يخطئ في الاتجاه الصحيح. وأفهمته أن في هذه الزحمة الكبيرة قد ينقلب المثل على رأسه فيصبح «ما ينفع الناس يذهب جفاء أما الزبد فيمكث في الأرض» لا أدري من أين أتى هذا الزخم الذي أصبحت تضيق به صفحات الجرائد وفيه من كل الألوان والأذواق؟ هل هو نتيجة الكبت الذي كان يسلطه على الفكر والرأي صاحب القصور الزائلة أم هو نتيجة طبيعة تتغير مع الأحوال والظروف فتراها تختبئ عندما تكون مصلحتها الشخصية مهدّدة وتستيقظ عندما تحس بعدم الخوف على نفسها؟ وهذا قد يدفع بأصحاب الأقلام الثابتة الى الخوف من ضياع الطريق بين هذا وذاك على كل فبعد هذا الصراع والتردد حدثت واقعة جعلت قلمي يثور عليّ ويلومني على هذا السكوت المشين بعد أن رأى أن جلّ الأقلام لم تعط لهذا الموضوع القيمة التي يستحقها على صفحات الجرائد باستثناء مقال صغير قرأته في البعض من وسائل الاعلام وهو أمر في نظري خطير جدا إذا تأملنا فيه بجدية وسكتنا عنه. الثورة هي طريق الى الخلاص من الظلم والفساد وطريق الى الحرية والديمقراطية وطريق الى الاحترام بعضنا البعض والوقوف في حدود حرية الغير فما بالك إذا أصبح قانون الغاب مرسّخا في العقول وفي التصرفات، هذه التصرفات التي سمحت لأصحابها باقتحام مقر ولاية توزر والتصرف مع الوالي ممثل الدولة بشكل يخجل منه كل من له ذرة من الاحساس بالكرامة. فماذا يريد هؤلاء الذين لا يفرقون بين الحق والواجب وبين قيم الأخلاق وتصرفات العربدة؟ لم يعجبهم الوالي الأول والثاني والثالث وربما حتى الرابع والخامس والآن وقد بقيت أبواب الولاية مغلقة أمام مصالح المواطنين فهل هذا يعجبهم أيضا؟ فإذا كانت في نظرهم الضيق هذه هي الديمقراطية فيا خيبة الأمل. لقد عملت طيلة ثماني سنوات بالجنوب التونسي في البداية على رأس معتمدية دوز الصحراوية ثم على رأس ولاية قبلي بعد احداثها وهي مجاورة لتوزر وكنت أتردد على هذه الولاية المعروفة بواحاتها الجميلة وبتطور السياحة بربوعها فأصبح يتردد على نزلها الفاخرة آلاف السياح من جميع أنحاء الدنيا وقد قفزت على غيرها من ولايات الجنوب وأصبحت تحط بمطارها الفسيح الطائرات العملاقة، فهل هذا لا يساوي شيئا أمام المصالح الضيقة لفئة لا يرضيها أي شيء لأنها لم تساهم في أي شيء ولم تعرف لذة البناء وكيفية المحافظة عليه. أين هم العقلاء من أهل هذه الواحات الذين عرفوا باحترامهم للأخلاق وسيطرتهم على مثل هؤلاء المتعطشين للفوضى وهم أبعد الناس عن الثورة المجيدة التي أصبح يشيد بها أهل الغرب والشرق ويعطون بها المثال لغيرنا من الشعوب وقد أصبحوا يتسابقون لمساعدة تونس والأخذ بيدها للنهوض باقتصادها كي ننهض في أسرع وقت بجهات كان الفقر فيها سببا من أسباب انهيار الطاغية الذي تجاهل قيمة هذه المناطق ودورها في التاريخ القديم والحديث، فكرامة الانسان أغلى بكثير من الخبز واحترام السلطة الجهوية أساسي لربط العلاقة النظيفة بين المسؤول والمواطن لأن ذلك يشجع على العمل والتضحية ونكران الذات والاحترام المتبادل وبقدر ما نقدس هذا المبدأ نكون قد قطعنا شوطا كبيرا في ارساء الديمقراطية الحقة، ديمقراطية الحوار، الديمقراطية التي تأبى الفوضى والانزلاق في متاهات قد تجاوزتها بلادنا منذ الاستقلال وأمكن للتونسي بشيء من الوعي السياسي أن يقطع مع عقلية العروشية والقبلية. وإذا ثار الشعب برمته على ظلم الرئيس المخلوع وفساده واقتلاعه وحاشيته من جذورهم فلا يعني هذا أنه يجب تحطيم وتهديم الأعمدة الأساسية التي ترتكز عليها الدولة في الجهات لأنه إذا لم نقدر قيمة ذلك فستبقى رؤوسنا عارية بدون غطاء وبدون حماية. فهل سنحكّم الرأي ونفهم أنه ليس في صالح الثورة وليس في صالح الشعب أن نسكت عن هذه النعرات وهل سنتعظ بهذه الدروس حتى لا نندم على ما يمكن أن تفعله أيدينا؟ وعند ذلك سوف لا ينفع الندم. ولا يفوتني في الختام أن أتوجه الى كل الذين سجلوا أسماءهم على قائمات عشرات الأحزاب فأقول لهم إن السياسة ليست لعبة شطرنج فهي مسؤولية كبرى على عاتقهم ومن واجبهم أن يكونوا في مقدمة المدافعين عن مكاسب الشعب التي هي ملك المجتمع بأسره وأن لا يكون تفكير كل واحد منهم في نفسه فقط وفي المسؤولية والكرسي لأنه في هذه المرة ستكون لهم بطاقة الانتخاب بالمرصاد لأن عهد الكلام بدون فعل قد انتهى وعهد سيطرة الأحزاب بدون عمل ايجابي ورؤية واضحة لن يجد مكانا في عقل هذا الشعب الذي لم يعد يقبل أن يلدغ من جحره مرتين.