عاش زينون، الفيلسوف اليونانيّ الشهير، في بداية عصر السفسطائيين، وكانت للفلسفة في زمانه، على مايقول المؤرّخون، منزلة عظيمة، «إذ كان حكام أثينا وأصحاب الرأي فيها يستقدمون الفلاسفة ويستضيفونهم في بيوتهم ويغدقون عليهم الأموال ويستمعون إليهم ويتعلمون على أيديهم». وقد آلى زينون على نفسه أن يثبت أنّ كلّ المذاهب التي تقول بالتغيّر والحركة تفضي قطعاً إلى التناقض، فلاشيء في نظره متغيّر أو متحوّل...كلّ شيء في نظره ثابت، قارّ. أمّا الحركة فهي مجرّد وهم لا ينهض لها دليل عقليّ يؤكّدها، وقد استخدم زينون حدّة ذكائه وقوّة حجّته لتأكيد ذلك. يقول الأستاذ نبيل حاجي نائف : نعم، كان زينون سفسطائياً ولكنه كان ذكياً جداً، إنه كان يريد الدفاع عن مذهبه بأيّ سبيل فأوجد تلك الحجج التي تدل ّعلى الذكاء المفرط والعبقرية..لكنّ هذه الحجج وإن كان يكذّبها الواقع فإنّ العقل لا يستطيع تكذيبها، بل إنها تضعه في حيرة وذهول، لأنها تسير حسب أصول المنطق الصحيح. فالرجل قد أثبت، من خلال البراهين المنطقيّة والاستدلالات العقليّة، أنّ البطل آخيل، وهو أسرع العدائين، لا يمكن أن يلحق بسلحفاة إذا سبقته ببعض الأشبار...كما أثبت بالدليل القاطع والحجّة الداّمغة أنّ السهم إذا انطلق من القوس فإنّه لا يبرح مكانه.... تذكرت سيرة الفيلسوف اليوناني هذه الأيام وأنا أشاهد الحوارات التي تنعقد في إذاعاتنا وقنواتنا التلفزيونية... فهذه الحوارات كثيرا ما تنحرف عن الواقع ، مثل حجج زينون، وتنحرف عن انتظارات المتقبّلين وعن القضايا الساخنة التي تؤرّقهم لتتحوّل إلى لعب فكريّة أو ملاكمات لفظيّة أو حصص استعراضية لا تستهدف إقناع المتقبّل بقدر ما تستهدف إمتاعه. والواقع أنّ الحاضرين في مثل هذه البرامج يتجاورون ولا يتحاورون، كلّ واحد منهم متمسّك بمواقفه لا يتخلّى عنها ، يسعى إلى إفحام الخصم، إلى تبكيته، إلى تجريده من كلّ الحجج والانقضاض عليه. لا أحد منهم يصغي إلى الآخر أو الإحاطة بمواقفه ...فالخصم مخطئ وإن كان على صواب والمحاور مصيب وإن كان على خطإ ،لهذا وجب دحض كلّ مايقوله الآخر ، ،ونفيه... ثمّة في كلّ حوار ميثاق ينبغي الالتزام به التقيّد بشروطه وأوّل هذه الشروط إيمان المحاور بنسبيّّة المعرفة، بإمكان الخطإ، بحقّ الاختلاف والتّسليم بأن الحوار مناسبة للتصويب والتقويم و إعادة النّظر. أمّا إذا انطلق المحاور من الإيمان بأجوبة جاهزة لا يعتريها الشك فإنّه لا يلغي معنى الحوار فحسب وإنّما يلغي معنى المعرفة و التّسامح والتفكير... ومن شروط الحوار أيضا اعتبار الآخر الذي يحاورني يمثّل البعد المكمّل لحضوري والذي لا تقوم ذاتي بدونه، على حدّ عبارة البعض ... اعتباره الضوء الذي يتيح لي أن أتعرّف إلى نفسي، ومن ثمّ اعتباره شريكا لا خصما في التأسيس و البناء وصياغة المشروع المجتمعي الحديث. لا شكّ أنّ الطرفين يشرعان في الحوار وهما يحملان إجابة مسبقة ...لكنّ قيمة الحوار تكمن في دفع هذين الطرفين إلى تعديل إجابتهما ، إلى مراجعتها ، وربّما إلى إعادة النظر فيها وهذا يعني أنّ كلّ حوار يفضي بالضرورة إلى صياغة إجابة ثالثة هي خلاصة تفاعل إجابتي المتحاورين السّابقتين ....هذه الإجابة الثالثة هي التي عدمناها هذه الأيّام في الحوارات التي نشاهد ونسمع... ولهذا يمكن ان نعتبر هذه الحوارات أقرب ما تكون إلى ضروب من المونولوغ شتّى، يناجي من خلالها المرء نفسه وإن بدا ظاهريّا أنّه يخاطب الآخر ويجادله.