بارومتر 2025: 13٪ من التونسيين ملتزمون بالإستهلاك المسؤول    حملة رقابية مشتركة بشاطئ غار الملح: رفع 37 مخالفة اقتصادية وصحية    كأس العالم للأندية 2025: برنامج مباريات السبت 21 جوان    بطولة افريقيا للرقبي السباعي بالموريس: المنتخب التونسي ينهي الدور الاول في المركز الثالث    بن عروس : "كبارنا في اعيننا ..وبر الوالدين في قلوبنا" عنوان تظاهرة متعددة الفقرات لفائدة المسنين    الميناء التجاري بجرجيس مكسب مازال في حاجة للتطوير تجاريا و سياحيا    عاجل: قائمة المتفوقين في بكالوريا 2025... أرقام قياسية وأسماء لامعة!    نسبة النجاح في الدورة الرئيسية لبكالوريا 2025 تبلغ 37,08 بالمائة    نتائج بكالوريا 2025: نظرة على الدورة الرئيسية ونسبة المؤجلين    صفاقس: 100% نسبة نجاح التلاميذ المكفوفين في باكالوريا 2025    عاجل: وزارة الفلاحة تحذّر التونسيين من سمك ''ميّت''    عاجل/ نفوق أسماك بشواطئ المنستير.. ووزارة الفلاحة تدعو إلى الحذر..    بطولة برلين للتنس: انس جابر تنسحب رفقة باولا بادوسا من مواجهة نصف نهائي الزوجي    كأس العالم للأندية 2025: ريال مدريد يواجه باتشوكا المكسيكي والهلال يلتقي سالزبورغ النمساوي    المهدية : تنفيذ عمليات رقابية بالمؤسسات السياحية للنهوض بجودة خدماتها وتأطير مسؤوليها    Titre    "نيويورك تايمز": المرشد الإيراني يتحسّب من اغتياله ويسمّي خلفاءه    مبعوث بوتين إلى الشرق الأوسط يحذر من المساس بمحطة بوشهر الإيرانية    عاجل: بداية الإعلان عن نتائج الباكالوريا عبر الإرساليات القصيرة    الدورة 56 لمهرجان الساف بالهوارية ستكون دورة اطلاق مشروع ادراج فن البيزرة بالهوارية ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو (مدير المهرجان)    المنستير: انطلاق المسابقة الدولية في التصوير الفوتوغرافي والفيديو تحت الماء بعد تأجيلها بيوم بسبب الأحوال الجوية    النجم التونسي محمد مراد يُتوّج في الدار البيضاء عن دوره المؤثّر في فيلم "جاد"    مدنين: 56 مريضا ينتفعون من عمليات استئصال الماء الابيض من العيون في اليوم الاول لصحة العيون    باجة : إجراء 14 عملية جراحية مجانية على العين لفائدة ضعاف الدخل [صور + فيديو ]    محسن الطرابلسي رئيسا جديدا للنادي الإفريقي    "هآرتس": تحرك قاذفات أمريكية قادرة على تدمير "فوردو" الإيرانية    قبلي: اجراء 37 عملية جراحية مجانية لازالة الماء الابيض في اطار اليوم الوطني الاول لصحة العيون    تعمّيم منصة التسجيل عن بعد في 41 مكتبا للتشغيل بكامل تراب الجمهورية    الزيت البيولوجي التونسي ينفذ إلى السوق الأمريكية والفرنسية بعلامة محلية من جرجيس    الكاف: لأول مرة.. 20 عملية جراحية لمرضى العيون مجانا    فيديو من ميناء صيادة: نفوق كميات هامة من الأسماك بسبب التلوث    قبلي: حادث مرور يودي بحياة جزائري وإصابة مرافقه    وزير السياحة: التكوين في المهن السياحية يشهد إقبالاً متزايداً    أردوغان: متفائلون بأن النصر سيكون إلى جانب إيران    عاجل/ ترامب يمهل ايران أسبوع لتفادي الضربات الامريكية المحتملة..    اليوم: أطول نهار وأقصر ليل في السنة    توقيع اتفاقية قرض بقيمة 6,5 مليون أورو لإطلاق مشروع "تونس المهنية"    وزارة الثقافة تنعى فقيد الساحة الثقافية والإعلامية الدكتور محمد هشام بوقمرة    الفنان أحمد سعد يتعرض لحادث سير برفقة أولاده وزوجته    القصرين: بطاقات إيداع بالسجن في قضية غسيل أموال مرتبطة بالرهان الرياضي    طقس السبت.. ارتفاع طفيف في درجات الحرارة    مدنين: اختصاصات جديدة في مهن سياحية وانفتاح على تكوين حاملي الإعاقة لأول مرة    اليوم: الإنقلاب الصيفي...ماذا يعني ذلك في تونس؟    الاحتلال يضرب وسط إيران.. قصف مبنى في قم وانفجارات في أصفهان    إغتيال قائد لواء المسيّرات الثاني بالحرس الثوري الإيراني    الانقلاب الصيفي يحل اليوم السبت 21 جوان 2025 في النصف الشمالي للكرة الأرضية    بايرن ميونخ يفوز على بوكا جونيور و يتأهّل إلى ثمن نهائي كأس العالم للأندية (فيديو)    بعد فوزه على لوس أنجلوس... الترجي الرياضي يدخل تاريخ كأس العالم    أسرة عبد الحليم حافظ تُقاضي مهرجان "موازين" الدولي بالمغرب    وزير الاقتصاد.. رغم الصدمات تونس لا زالت جاذبة للاستثمارات    في اختتام مهرجان « Bhar Lazreg Hood» منطقة البحر الأزرق .. معرض مفتوح لفن «الغرافيتي»    باجة: نسبة تقدم الحصاد بلغت 40%.    الأحد: فتح المتاحف العسكرية الأربعة مجانا للعموم بمناسبة الذكرى 69 لانبعاث الجيش الوطني    السبت 21 جوان تاريخ الانقلاب الصيفي بالنصف الشمالي للكرة الأرضية    ارتفاع درجات الحرارة يسبب صداعًا مزمنًا لدى التونسيين    منصّة "نجدة" تساعد في انقاذ 5 مرضى من جلطات حادّة.. #خبر_عاجل    التشكيلة المحتملة للترجي أمام لوس أنجلوس    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأسطرلاب: في انتظار المحاكمة في انتظار الدرس الإفتتاحي
نشر في الشروق يوم 11 - 07 - 2011


(1)
عندما وُضع المفكر اللاهوتي الإيطالي جيوردانوبرونو Giordano Bruno المتهم بالزندقة في عام 1600 على «مشوى» القصاص الذي نصبته محكمة التفتيش في ساحة الكنيسة, أغاض مجمع الأكليروس التي يشم رائحة لحمه المشوي بصمته الثقيل وشخوصه في اتجاه السماء, حتى أن البعض قال إنه في لحظة الاحتراق تلك كان برونويرنوببصره مكتشفا كوكبا جديدا وبعيدا وكان هذا الكوكب يهدهد روحه بالفتنة والجمال ويؤكد له صحة أقواله في الطبيعة والكون ... كان جيردانوبرونويعيد التألق الأدائي لسقراط مدفوعا بتناول السم كانتحار فلسفي, لكن برونو أقل مكابرة من عقل أثيني سفسطائي وأكثر توغلا في دفع ضريبة العقل الإنسانوي المبشر بإقامة الإنسان في قلب الكون وتأسيسه لسلطان العقل الذي مكنه من الشك في التصور البطليموسي القائل بمحدودية العالم والتأكد من أن الكون لانهائي, وأن هذا الانفتاح اللانهائي للكون لا يمكن إثباته إلا بالتضحية في انتظار نهضة العلوم الفيزيائية الحديثة التي أكدت صحة مقولته... صمت جوردانوبرونووهويتقلىّ على جمر المحرقة شاخصا بروحه إلى الفضاء الرّحب المرصع بالنجوم, واغتاض المجمع الكهنوتي من هذا الصمت الأخرق لهذا الزنديق وتناسى البعض وهويشاهد مأدبة الشواء أن الرجل قد قطع لسانه الذي جاهر بصحة نظرية كوبرنيك وبشر في أقواله بانتصار الإنسان على الطبيعة عن طريق العقل . إنتقل برونوفي تلك اللحظة متجاوزا الآلام من العقل الغريزي إلى العقل البرهاني ومن العقل البرهاني إلى العقل الفياض ومن العقل الفياض إلى العقل الأول المتوحد في تدبيره ... إكتوى الجسد اللحمي الفاني وطافت الروح في الملكوت تحت العرش.
(2)
لا شكّ أن الجدل الفكري الذي حدث مؤخرا من منطلق ما صرح به المفكر التونسي الأستاذ محمد الطالبي في حواره الإذاعي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس مع الأستاذ عبد الفتاح مورو حول الحقائق التاريخية المتعلقة بتاريخ الإسلام, سيحدد من هنا فصاعدا وضمن تاريخ الثقافة والتفكير في تونس الأدوار الجديدة التي سيتعهد بأدائها المثقف التونسي بعد الثورة. وسيكون ما حدث من جدل على الملإ بداية للمحنة والامتحان الذي سيسطر رهانات دور المثقف التونسي في بناء لبنات مستقبل الثقافة في بلادنا... نقول هذا الكلام في سياق الغياب المطلق للمفكر والمثقف, بل في سياق التغييب المتعمد لصوت المثقف الذي عوّض بصوت الفقيه القانوني وصوت الفقيه السياسي وصوت الفقيه الديني, وصوت الفقيه المحاسب, وصوت الفقيه اللوجستيكي, وصوت الفقيه الخبير, وصوت الفقيه الفارماكوني المتطبب.
(3)
وفي رأينا أن أكبر دليل على غياب صوت المثقف هو غياب صوت المثقف عن المثقف أي غياب المثقف نفسه, وهو ما نلمسه بشكل واضح في الصمت المطبق العام على الهجمة الشرسة التي يتعرض لها المفكر محمد الطالبي وغياب كل مبادرة للدفاع عنه أمام ما ينتظر الرجل من تصرف العوام الخائضين في علم الكلام, وعلى رأسهم فقهاء جدد, هم فقهاء القانون الذين تقدمت ثلة منهم للقضاء التونسي من أجل محاكمة محمد الطالبي على ما بدا من تصريحاته الماسة بقناعات الإجماع والجموع, علاوة على تهديد الرجل صراحة على المنابر الإفتراضية التي تطالب بالقصاص منه وإهدار دمه, خاصة وأن تقاليد إغتيال العقل في ثقافتنا المعاصرة باتت زادا مشرفا للثقافة العربية الإسلامية بين ثقافات العالم المعاصر, وضحاياها كما هومعروف سلسلة طويلة من الإغتيالات والقتل والتضييق والمحاكمات والتشهير والحرق والمنع والتكفير وإنزال الفتوى من لدن الحقد الكبدي تجاه التفكير والتأويل والإجتهاد و«أوجاع الدماغ». وقد ينفلت أحد الصبيان لا قدر الله في هذا الجوالمشحون بالتجييش والشيطنة فيؤذي الطالبي كما حدث في مصر مع نجيب محفوظ.
وغياب المثقف وصمته في مثل هذه المحنة التي يتعرض لها المثقف معبرة عن أزمة ما, أزمة يساهم فيها المثقف التونسي بشكل جلي, وهو ما سيسوّغ للجموع ومن يقف وراءهم من فقهاء إلى مزيد من التطاول على المفكرين والمبدعين في البلد, ويِؤكدون بشكل غير مباشر في تأبيد صورة المثقف المستقيل بإرادته والمتواري وراء أحجبة النخبوية الناعمة, والإنتماء البرجوازي الصغير, والكائن المقيم في الرفاهية والفضاءات المكيفة, والمكتفي بذاته ونعمه وملذاته الصغيرة والاحتفاء بنرجسيته المخملية. وهو ما يؤكد مرة أخرى أن المثقف التونسي لا وجود له إلا على ألسنة العوام بوصفه «ثقافوتا» (على وزن بهموت وجهلوت...) منقرضا وكائنا رابعا لا وجود له كالعنقاء والغول والخل الودود.
(4)
وفي هذا الإطار الذي انشغل فيه الناس بهرج الفتنة التي أردها البعض «فتنة خالصة» بسبب إحتياجهم لها كذريعة للإبتزاز السياسي على خلفية الصخب الذي تمر به البلاد بعد الثورة ورغبة أطراف سياسية في استغلال هذه الوضعية لصالح حملاتهم التعبوية وكسب الأنصار ضمن ما تتيحه مسرحة الشأن العام من إمكانية للتألق الأدائي بدءا من ترويج الشيطنة ووصولا إلى إقامة محاكم التفتيش باسم إقامة الحد ... قلت في هذا الإطار بالذات لم يتم الإستماع الفعلي لضمير مفكر كمحمد الطالبي , بل لم تتم قراءة نصوصه وأفكاره وأطاريحه بالشكل الذي ينصف الرّجل الذي لم يدخر ذرة جهد في التفكير المعرفي والنظر العقلي والمناوءة السياسية والفكرية للطغيان قبل الثورة... ولا غرابة أن المقولة الشهيرة «هذا الحساب قبل أن أقرأ الكتاب» ستسود كعملة في حياتنا الفكرية يتم من خلالها تصريف الظلم والإظلام في سوق تجار الحقيقة من الفقهاء بكل أنواعهم الذين ذكرناهم.
(5)
قد يحدث أن يحاكم الطالبي أمام القضاء التونسي ولا أدري بأية تهمة ؟ في الزمن الذي يحتل فيه الفقيه القانوني المشهد كله. وإن وقعت هذه المحاكمة ستكون أوّل محاكمة في تاريخ تونس على الأفكار , وستكون للبعض انتقام من العقل والرأي المخالف , لكنها ستظل محاكمة إستثنائية حين سيتكلم فيها العقل الطالبي أمام العقول الطالبانية... ستكون محاكمة مفصلية في تاريخ تونس المعاصر قد تمكّن ربما البروفيسور محمد الطالبي بوصفه مفكرا ومثقفا ومجتهدا في التفكير والتأويل, وبوصفه أيضا أحد بناة الجامعة التونسية من القيام بالدرس الإفتتاحي (Cours inaugurale) لموات العقل في تونس ما بعد الثورة.
درس الطالبي الإفتتاحي في المحكمة ستكون ديباجتها ما قاله نظيف الرومي وثبته التوحيدي في المقابسات: «أما العقل فإنه يقضي بانتظامه وثباته, واتصاله والتئامه, وذلك لأن العقل حاكم عفيف , وقاض عدل, وصديق مشفق, ووالد حدب, وجار محسن , وشريك ناصح , وهاد صدوق , وصاحب مؤنس, وخطيب محقق, ومناد مبلغ, ومناج مفهم , ومحدث مطرب, وجليس فكه, ونور شائع, وضياء ساطع , وقول فصل, وركن وثيق, وجوهر شريف, وطود منيف, ونقطة متصلة, وذات مقدسة, وخير محض, وجود بحت, من ذا يقدر على مدحه وتقريضه ونشر خصائصه, وتحصيل فضائله , له الوجود الحق من الموجود الحق , له الحكم الفصل من الحكيم العدل»... أما نهاية هذا الدرس فستكون خاتمتها ما قاله بيك الميراندولي Pic de la Mirandole: «قرأت في كتب العرب بأنه لا يمكننا أن نرى شيئا أجمل ولا أروع من الإنسان».
ما أقبحنا ... في ثورة ضد الجمال .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.