باجة: نسبة تقدم الحصاد بلغت 40%.    "الستاغ" تعتذر من حرفائها..وهذه التفاصيل..    حرب الاستخبارات تتوسّع بقصف قاعدة العمليات الرقمية: اختراق كاميرات المراقبة وكشف مواقع الموساد يربك الصهاينة    كاس العالم للاندية 2025: فلامنغو البرازيلي يفوز على تشلسي الانقليزي 3-1    الأحد: فتح المتاحف العسكرية الأربعة مجانا للعموم بمناسبة الذكرى 69 لانبعاث الجيش الوطني    بطولة العالم لكرة اليد الشاطئية U17 : منتخب الإناث يُقصى من ربع النهائي والذكور يضمنون التأهل بمواجهة منتظرة أمام المجر    وزير الإقتصاد: رغم الصدمات الداخلية والخارجية لا يزال الاقتصاد الوطني جاذبا للاستثمارات الأجنبية المباشرة    بلاغ جديد من النجم الرياضي الساحلي    وزير الخارجية يشارك في أشغال الدورة 51 لمجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي    تسجيل 3،2 مليار دينار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تونس لكامل 2024    السبت 21 جوان تاريخ الانقلاب الصيفي بالنصف الشمالي للكرة الأرضية    وزارة الصحة تجدد دعوة الأطباء المقيمين إلى اختيار مراكز العمل    الترجي يعود لزيه التقليدي في مواجهة مصيرية ضد لوس أنجلوس في كأس العالم للأندية 2025    طبربة: إيداع مربي نحل السجن من أجل تسببه في حريق غابي    قابس: أكثر من 250 مشاركا في الدورة 41 لمعرض قابس الدولي    صحتك النفسية فى زمن الحروب.. .هكذا تحافظ عليها فى 5 خطوات    سحر البُن.. وعبق الإبداع والفن    اختتام مشروع "البحر الأزرق هود"    عاجل : أزمة جديدة تلاحق محمد رمضان    ارتفاع لافت في مداخيل السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج... مؤشرات إيجابية للاقتصاد الوطني    زيارة وفد نيابي الى المركب الصحي بجبل الوسط: تراجع خدمات المركب بسبب صعوبات عدة منها نقص الموارد البشرية وضعف الميزانية والايرادات    ارتفاع درجات الحرارة يسبب صداعًا مزمنًا لدى التونسيين    وائل نوار: الرهان المستقبلي لقافلة الصمود حشد مئات الآلاف والتوجه مجددا لكسر الحصار    عاجل/ العامرة: إزالة خامس مخيّم للمهاجرين يضم 1500 شخصا    إزالة مخيم ''العشي'' للمهاجرين في العامرة..التفاصيل    وزير السياحة يؤدي زيارة إلى ولاية جندوبة    منصّة "نجدة" تساعد في انقاذ 5 مرضى من جلطات حادّة.. #خبر_عاجل    هجمات اسرائيل على ايران: السعودية تحذّر.. #خبر_عاجل    منتدى الحقوق الاقتصادية يطالب بإصلاح المنظومة القانونية وإيجاد بدائل إيواء آمنة تحفظ كرامة اللاجئين وطالبي اللجوء    عاجل: اتحاد الشغل يطالب بفتح مفاوضات اجتماعية جديدة في القطاعين العام والوظيفة العمومية    حملة لمراقبة المحلات المفتوحة للعموم بدائرة المدينة وتحرير 8 مخالفات لعدم احترام الشروط القانونية (بلدية تونس)    "ليني أفريكو" لمروان لبيب يفوز بجائزة أفضل إخراج ضمن الدورة 13 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    إيران تخترق كاميرات المراقبة الخاصّة بالإسرائيليين.. #خبر_عاجل    من مكة إلى المدينة... لماذا يحتفل التونسيون برأس السنة الهجرية؟    ''مرة الصباح مرة ظهر''.. كيف يتغيّر توقيت اعلان نتيجة الباكالوريا عبر السنوات وما المنتظر في 2025؟    الرابطة الأولى: النادي الصفاقسي يتعاقد مع المدرب "محمد الكوكي" (صور)    النادي الإفريقي يعلن عن موعد الجلسة العامة الانتخابية    بطولة برلين للتنس: أنس جابر توانجه اليوم التشيكية "فوندروسوفا"    كاس العالم للاندية : ريال مدريد يعلن خروج مبابي من المستشفى    عاجل/ عقوبة سجنية ثقيلة ضد الصّحبي عتيق في قضية غسيل أموال    روسيا تحذّر أمريكا: "لا تعبثوا بالنار النووية"    عاجل/ طهران ترفض التفاوض مع واشنطن    الأستاذ عامر بحببة يحذّر: تلوّث خطير في سواحل المنستير ووزارة البيئة مطالبة بالتدخل العاجل    طقس اليوم: أمطار بهذه المناطق والحرارة في ارتفاع طفيف    ''التوانسة'' على موعد مع موجة حرّ جديدة في هذا التاريخ بعد أمطار جوان الغزيرة    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي يواجه الليلة لوس أنجلوس الأمريكي    تقص الدلاع والبطيخ من غير ما تغسلو؟ هاو شنو ينجم يصير لجسمك    عاجل: موسكو تتوعّد برد قاسٍ إذا استُخدمت أسلحة نووية ضد إيران    بالفيديو: رئيس الجمهورية يشرف على اجتماع مجلس الوزراء...التفاصيل    الأوركسترا السيمفوني التونسي يحتفي بالموسيقى بمناسبة العيد العالمي للموسيقى    شارع القناص ...فسحة العين والأذن يؤمّنها الهادي السنوسي .. الثقافة وهواة اللقمة الباردة : دعم ومدعوم وما بينهما معدوم.. وأهل الجود والكرم غارقون في «سابع نوم»!    خطبة الجمعة... ذكر الله في السراء والضراء    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    وفاة أول مذيعة طقس في العالم عن عمر يناهز 76 عاما    أمطار أحيانا غزيرة ليل الخميس    وفاة 5 أعوان في حادث مرور: الحرس الوطني يكشف التفاصيل.. #خبر_عاجل    أمل جديد لمرضى البروستات: علاج دون جراحة في مستشفى الرابطة.. #خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقف العربي والإسلام..تونس نموذجا :أحميدة النيفر
نشر في الفجر نيوز يوم 22 - 04 - 2009

اتّسمت علاقة المثقف العربي بالإسلام في الفترة المعاصرة بقدر من التوجّس كبير وصل في بعض الأحوال إلى حدّ العداء المُعلن.
قد لا يتصور اليوم جيل كامل من الذين لم يبلغوا الأربعين طبيعة هذه العلاقة المأزومة ودرجة حدّتها لكونهم لم يعايشوا تلك الأجواء إنما عرفوا أوضاعا مختلفة يظهر فيها الإسلام بدعاته ومؤسساته صاحبَ صولة بينما يبدو مثقفو الحداثة بطروحاتهم وخطابهم العقلاني في تراجع وانزواء.
إذا عدنا بالذاكرة إلى السنوات التي سبقت هزيمة جوان/ حزيران 1967، تاريخ بداية تراجع تدريجي للتيارات المناهضة للهوية والإيمان، برزت لنا الروح الحَدِّية التي شكّلت الحياة الفكرية والسياسية العربية طوال سبعة عقود.
تميّز طور أوّل ببروز حركة صراع فكري وإنتاج أدبي متميّز عُرفت بالمعركة بين القديم والجديد كان من أبرز أسمائها طه حسين وأحمد حسن الزيات ومصطفى صادق الرافعي صاحب مقولة : "إسقاط البدعة الجديدة التي يريد دعاتها تجديد الدين واللغة والشمس والقمر". ثم مع أربعينات القرن الماضي تراجعت المقاومة وبدأت سنوات تدابر ساد فيها المثقف العربي الثوري بتحليلاته الجذرية وخطابه الشمولي.
يمكن أن نستحضر من هذا الطور الثاني أمثلة عديدة من شتى البلدان العربية كمقولات "مصطفى حجازي" في" التخلف الاجتماعي ونفسية الإنسان المقهور". كان يعلن دون تردد أنّه لا بد من العمل "على إزالة التراث [ الديني] لأنه السبيل الوحيد لتحرير الجماهير ذاتها". من ثم أصبح هذا المثقّف ينظّر للعنف إذ يرى فيه شرعية اجتماعية ومعنى تاريخيا جديدا يسمح باستعماله ضد الجماهير ذاتها، إذ من " الممكن أن يكون أصحاب المصلحة في التغيير أكبر عائق أمامه".
"يس الحافظ"، مثقف عربي حداثي آخر، يقرّ في كتابه "الهزيمة والإيديولوجية المهزومة" بأنّ ثقافته التقدمية قدّمت له "مشروعا ثوريا شموليا ينقض بلا هوادة البنيان المخرَّب المفوّت للمجتمع العربي ويعوضه بمجتمع حديث وعادل وعقلاني".
مثال ثالث من قطر عربي آخر لكاتب ومثقف كان أنموذجا فريدا في نوعه. هو عبد الله القصيمي مؤلف كتاب "هذه هي الأغلال" الصادر سنة 1946 و الذي ثابر بعده على نشر سلسلة من الكتب ك " العالَم ليس عقلا" و" العرب ظاهرة صوتية" على رفع لواء انتصار الحديث على القديم والتنظير لموت الثقافة الكلاسيكية وضرورة القضاء على البنى التقليدية في المجتمع العربي. فعل ذلك بعد أن ظلّ لسنوات كاتبا منافحا عن السلفية متصديّا لخصومها من فقهاء التقليد وشيوخ الأزهر وهو ما دفع بالمناوئين له إلى التشهير به وتكفيره.
في المغرب العربي انطلقت هذه ال " ثورة" مبكّرة منذ أواخر القرن التاسع عشر مقتصرة في مرحلة أولى على مقاومة التقاليد الفاسدة والاعتقادات الضالة وكان من أشهر من برّز فيها الكاتب والسياسي التونسي النشأة والجزائري الأصل" عبد العزيز الثعالبي" صاحب كتاب " الروح الحرّة للقرآن". تطوّر طرح المثقفين المغاربة بعد ذلك مع الزمن متحاشيا في الغالب الأعم إدانة التراث الديني جملة واحدة كما كان الشأن في بلاد المشرق. لقد ظل خطاب التماهي الكامل مع الآخر لدى المثقفين المغاربة مسألة غير محسومة خشيةَ استلابٍ ثقافي يعوق نضالهم السياسي في مواجهة استعمار أوروبي يستهدف الوطن والهويّة معا.
مع ذلك ورغم هذا التمايز النسبي بين موقف المثقف العربي في المشرق ونظيره في المغرب فإن علاقة الجميع بالإسلام (اعتقادا و سلوكا أو ثقافة، تراثا أو قيما وخلقية) ظلت في حالة مشوبة بالالتباس والحذر الشديدين في الغالب.
لمحاولة إضاءة هذه الظاهرة التي طبعت حياتنا الفكرية والاجتماعية وتساهم في دفع حياتنا السياسية نحو طائفية مؤكّدة وحروب أهلية مكتومة أو معلنة لا بد من طرح أسئلة عن المثقف العربي و تاريخه وأنساقه الفكرية.
في مستوى ثان سنضيء أنموذجا محددا من بلاد المغرب ( الأنموذج التونسي) نبحث من خلاله واقع هذه الظاهرة ودلالاتها ومستقبلها.
من هو المثقف؟
للإجابة لا بد من التأكيد أوّلا أنه لا أثر في الأدبيات العربية القديمة لعبارة مُثقف، رغم توفر الثلاثي "ثَقِف" في اللغة بمعنى حَذِق وأتقن. يقول ابن منظور «ثَقِف الشيء ثُقفا وثقافة وثُقوفة: حذقه. ورجل ثَقِفٌ ، حاذق فَهِمٌ».
"المثقف"، إذن، كلمة مولَّدة للتعبير عن احتياج اجتماعي فكري حديث لم يقع تداوله بصورة واضحة إلا في فترة معاصرة أي في حدود نصف قرن من الآن.
أمّا التعريف الذي يبدو لنا أكثر دقة وموضوعية فهو الذي يعتبر المثقف : الشخص الذي يُكسبه التميّزُ المشهود له به في مجال معرفي أو إبداعي محدد شرعيةَ إعلان مواقف سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية تهم الشأن العام.
من هنا ندرك أنه روعي في اشتقاق الكلمة المولّدة الإبقاء على دلالتي الحذق والمهارة القائمتين في النسيج اللغوي القديم. إلى جانب ذلك وخلافا للنظير الأوربي الفرنسي وهو ال : «Intellectuel» و المشتق من كلمة «Intellect» بمعنى العقل أو الفكر، فإن المثقف في السياق العربي استمد مكانته من الدور الذي يقوم به بالأساس في المجتمع. هو دون شك يحمل فكرا خاصا لكنه يتميّز بما يقوم به في المجتمع بصفته صاحب قضية وحاملا لمشروع.
على ذلك فالمثقف هو صاحب تمكّن معرفي أو إبداعي يسمح له بالاعتراض وإثارة القضايا التي تقطع مع الاتباعية الاجتماعية و التعسف السياسي.
لذلك فالذي لا ينبغي أن نذهل عنه هو أن المثقف انبثق من رحم تحديث المجتمعات العربية معبّرا عن مفهوم المواطنة التي تستدعي ضرورةً صفتي الاعتراض والتشريع.
بذلك جاءت ولادة المثقف العربي انطلاقا لمواجهة ضرورية مع الفقيه لكنها تحوّلت تدريجيا إلى صدام ضارٍ باعتبار الفقيه هو القائم في البناء العربي الإسلامي القديم والوسيط على النظام الاجتماعي والقيمي حمايةً وتركيزا.
هكذا ظهر المثقف عندنا، صاحب معارف مكتسبة تُمّكِن من تنمية ملكة النقد والذوق والحكم، وقد استدعى بروزَه سياقُ تخلّف حضاري للمسلمين لم يبق أي وجه لإنكاره. لكن الذي حوّل المنافسة بين المثقف التحديثي والفقيه المحافظ إلى علاقة تدابر هو إضافة إلى الاختلاف في المرجعية الفكرية تناقضٌ في تشخيص أهم عوامل ضعف العرب والمسلمين في العصر الحديث. كان الفقيه يرى أن مأتى التخلّف الحضاري هو الواقع المباين لما يقتضيه الشرع بينما كان المثقف يرجع ذلك التخلف إلى الأفكار والرؤى المستمدة من التراث والتي لم تعد لها أية راهنية أو قدرة على تقديم الإجابات المطلوبة.
يضيف " يس الحافظ"، أحد أبرز المثقفين العرب المعاصرين جانبا هامّا يفسر به الانتقال من سياق منافسة بين المثقف والفقيه كان يمكن أن تكون مبدعة إلى تنافٍ يحول دون تطوّر الوعي بالنقد الذاتي. يقول:" في مناخ شرقي يفتقر إلى التقليد العقلاني يصعب أن يتخلّص المرء دفعة واحدة من المعتقد الإيماني [ الوثوقي] . ذلك أن التاريخ والمجتمع يعملان على تعويض المعتقد الإيماني الديني بمعتقد إيماني آخر". لقد عبّر التدابر عن صدام وثوقيتين تكتسي الأولى لبوسا دينيا أما الأخرى فهي رغم نزعتها التجديدية فقد ظلّت وثوقية إيمانية مقلوبة.
عندما ينسحب الفقيه
كيف نشب الخلاف بين الفقيه والمثقف العربي ثم كيف تدهورت العلاقة بينهما حدَّ التناكر والعداء؟
لماذا استفحل الشقاق بينهما وهل كان من الممكن تفاديه أو التحكم فيه؟
أيجوز أن نقارن صدام هذين الرمزين في العصر الحديث بالتنافس الدامي القديم بين أهل الفقه والشريعة وبين أهل التصوّف والطريقة؟
لماذا غدا عموم المثقفين العرب بعد إزاحة الفقهاء من صدارة الفعل الاجتماعي والتشريعي في تبعية لسلطان الحكم بعد أن كانوا روّادا حاملين لمشروع فكري عام قابل لتحريك المجتمع؟
إذا أردنا تقديم إجابات ضافية وعلمية عن هذه الأسئلة فإننا نحتاج إلى عمل دراسي شامل ومعمّق لا يسمح به المقام. مثل هذا الغرض يمكن أن تحققه أيضا ندوة علمية يساهم فيها عدد من الباحثين العرب والأجانب يتداولون فيها بالدرس حالات عربية متنوعة في خصوصياتها قصد النظر في تحوّل المؤسسات العلمية والاجتماعية ورصد تاريخ الأفكار وتطوّرها في العالم العربي الحديث.
لذلك سنقصر عملنا هذه المرّة وفي مقال موالٍ على أنموذج واحد ضمن المجال العربي هو الأنموذج التونسي نسعى من خلاله إلى إضاءة جانب من إشكالية المثقف العربي في علاقته بالإسلام مُنجَزًا حضاريا معيشا وبالفقيه الذي ظل لقرون صاحب السلطة المرجعية دينيا وتشريعيا في المجتمعات المسلمة.
لم تشذ تونس عن سائر البلدان العربية والإسلامية في ظهور فئة المثقفين الحاملين لمعارف جديدة لا صلة لها بالمرجعية الدينية والمطالبين باحداث قطيعة عملية مع الماضي والعاملين من أجل تصور جديد للمستقبل. لعلّ تونس كانت، في هذا المضمار، أسبق من كثير من الأقطار العربية الأخرى باعتبار مبادراتها أو اضطراراتها لإجراء حركة إصلاحات تحديثية في مختلف المجالات. من ثم توفّرت الشروط الموضوعية لانبثاق المثقف من رحم تحديث المجتمع.
من أبرز أحداث الطور الأول لتلك الحركة سجّل المؤرخ التونسي أحمد ابن أبي الضياف في كتابه-المرجع: "إتحاف أهل الزمان" جملة من القرارات كانت إيذانا بقيام خيارات أساسية تهم الدين والدولة والأداء السياسي والتوجه الاجتماعي فضلا عن السياسة الخارجية والوطنية. من هذه الاجراءات يمكن أن نذكر : إبطال مهمة "المزوار" أو المحتسب القائم بالأمر بالمعروف والناهي عن المنكر سنة 1836، جعل مرتبات قارة لفقهاء المالكية يتقاضونها مع الجند النظامي وإنشاء مدرسة حربية خاصة لتكوين الإطارات العليا للدولة، تحت إشراف مزدوج أوروبي تونسي سنة 1840، إحداث نظام تعليمي يضبط به سير الدروس الدينية في جامع الزيتونة 1842، عتق الرقيق السود سنة 1846.
لكن أهم تلك الأحداث وأكثرها تعبيرا عن الولوج بصورة أكيدة في سياق تحديثي تحقق سنة 1274 ه الموافق لسنة 1857 م. في ذلك العام أصدر الملك وثيقة"عهد الأمان" وهو أول دستور ينظم الحياة السياسية والقانونية والاجتماعية و المالية لسكان القطر وللأجانب المقيمين به. كان رد فعل الفقهاء عند تلاوة نص الوثيقة لأول وهلة هو الاستحسان إلى حد تصريح شيخ الإسلام بأنه يمكنه أن يخطب يوم الجمعة بشرح الوثيقة ذلك أن قاعدة الأمان والعدل " هي ملاك أمر الدين والدنيا".
لكن المجلس الشرعي اتخذ بعد ذلك موقفا مغايرا فاعتذر جميع أعضائه عن المشاركة في أعمال لجنة إقرار التراتيب وشرح الفصول المسطّرة في الدستور. كان عذرهم الذي تقدموا به إلى الملك كتابةً هو "أن منصبهم الشرعي لا تناسبه مباشرة الأمور السياسية"!. يعتبر ابن أبي الضياف- وهو من خريجي المؤسسة الزيتونية ومن أشد المتحمسين للإصلاح والتحديث، هذا الانسحاب غير المبرر إخلالا بواجب العلماء في القيام بالنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم وتضييعا لفرصة تاريخية كان يمكن للفقهاء لو شاركوا فيها أن يفيدوها وأن يستفادوا منها وأن يكون ذلك باعثا لنَفاق "سوق العلم وتقدّم أهله". ثم يعلق على كل ذلك فيما يشبه اليأس من حسن تقدير الفقهاء أن الله " سيسألهم عن ذلك يوم تُبلى السرائر".
ذلك كان الحدث الفارق في التاريخ الحديث بتونس بين المؤسسة الدينية وممثليها من الفقهاء وبين فئة المثقفين الصاعدة.
توالت بعد ذلك أحداث أخرى رجّحت بعضُها ما ذهب إليه المؤرخ-المثقف من تهاون الفقهاء بواجبهم في " تيسير الشريعة الصالحة لكل زمان ...وقبول ارتكاب أخف الضررين عند العجز عن السلامة منهما". هذا بينما بيّنت مواقف أخرى، من أبرزها اضطراب في العاصمة بعد توقف المجلس الشرعي عن العمل لمطالبة الملك بتقييد الدولة بمجلس للشورى في صيف 1879، أن قسما من الفقهاء على وعي بما يتطلبه الوضع بالبلاد من إصلاحات سياسية ومؤسساتية عشية قيام الحماية الفرنسية. كان لسان حال بعضهم يقول، وهو المدرك أن الأمر آيل إلى انقلاب كبير، "لا رأي لمن لا يطاع" بينما كان آخرون يردد ون "لقد سبق السيف العذل".
ذلك كان منطلق الخلاف الذي سيتواصل متدرّجا مع الأيام ليبرز المثقفَ منافسًا عنيدا للفقيه رغم كونه حصّل معارفه من جامع الزيتونة، ذات المؤسسة التعليمية الوطنية القائمة على تكوين النخب الرائدة والإطارات العليا للدولة..مع انطلاق مؤسسات تعليمية منافسة منها الوطني بمشاركة شيوخ من الزيتونة ومنها الأجنبي الوافد اشتد التنافس إلى أن أصبح غير متوازن. عندها أضحى المثقف متملّكا لوعي ذاتي بالاتجاهات العامة في حضارته وفي مسيرة العالَم من حوله بما جعله أَلْحَنَ بحجَّته من منافسه.
أما الفقيه فقد ارتد في الغالب إلى مواقع دفاعية تعوزه الرؤية النقدية للسياق التاريخي الإسلامي الخاص فضلا عن تشخيص سليم للسياق الحضاري العام. يضاف إلى ذلك عنصر آخر زاد الطين بلة أظهره بجلاء سياق التحديث هو أن الفقهاء أصبحوا ثلاثة: فقيه ولاءه لمؤسسة السلطة يرى السمع والطاعة أفضل ضامن لالتئام الأمة، وفقيه ادّراء يتجنّب المواجهة أو النقد مع اعتقاد ضرورة الإصلاح، وفقيه انتماء إلى الجماعة والأمة، مدرك للفجوة القائمة بين الواقع الموضوعي للمجتمع وبين البنية الفقهية والفكرية المعتمدة لدى عموم أقرانه.
مع قيام نظام الحماية الفرنسية تواصل العدّ التنازلي المؤذن بتراجع واضح لمكانة الفقيه وبروز المثقف المقترِح مرجعيةً ثقافية بديلة تحقق الوقوف على العديد من ثغرات المجتمع.
ما سيقع اعتماده من وسائل التشنيع والإدانة بل والتكفير لمقاومة المنافس الصاعد القائل بضرورة تجاوز مرجعية النخب المتدينة كان أكبر دليل على فشل دعوى التقليد. هذا ما تؤكده أكثر من حالة في الأنموذج التونسي لعل أشهرها حالة المثقف عبد العزيز الثعالبي الذي حوكم سنة 1904 بتهمة الكفر ونشر الضلالات، وحالة الطاهر الحداد ( ت 1935) الذي وقعت مقاومته بشدة لما أظهره من رفض لوثوقية الفقيه الداعم للتقاليد الفاسدة وللدعوة لإصلاح أوضاع الأسرة والمرأة خاصة.
من هذا الطور الأول الذي سبق بناء الدولة القطرية الحديثة في تونس يمكن أن نستنتج أن المثقف انتهى لموقع أصبح فيه رائدا للثورة على التراث معتبرا أن الثقافة السائدة ثقافة تقليدية متخلفة، وأن المجتمع يتطلّب تغييرات جذرية شاملة بعضها يتم بتغيير نظام الحياة ، وبعضها الآخر يستدعي تغييرا لنظام الفكر.
الأصالة لا تعلو على التاريخ
في لقاء رسميّ نادر اجتمع عدد من المثقفين البارزين وكبار الفقهاء بأبرز رجال الفكر والأدب والتوجيه لمناقشة قضية "الإسلام ومقتضيات النهضة الحديثة" ضمن أعمال لجنة الدراسات والتفكير المتفرّعة عن اللجنة المركزية للحزب الحاكم بتونس.
انطلقت أعمال هذه الندوة-الحدث في ربيع سنة 1967 لتنتهي صيفَ ذات السنة في تسع جلسات دُوِّنَت محاضرها ثم طبعت في وثيقة وزعت على أهم لجان الحزب قصد التعريف بالمشاغل الفكرية والإيديولوجية للنخب الحاكمة في البلاد التونسية يومئذ. بالعودة إلى هذه الوثيقة الكاشفة عن طور ثانٍ من أطوار الخلاف بين المثقف والفقيه يضاء جانب من الأنموذج التونسي بخصوصياته المثيرة للاستغراب أحيانا وللجدل بل الاستهجان أحيانا أخرى.
ليس مقصودنا من صفة الأنموذج أنها تمثل حالة مثالية ينبغي احتذاؤها أو أنّها أرقى من تجارب شقيقاتها. إنّما فرادتها في نوع الإضافة التي حقّقتها مقارنة بما كانت عليه أوضاعها الذاتية وبما أمكن أن تحققه أقطار عربية تشترك معها بقدر من الأقدار في إشكالية تحديث المجتمع. من تمايز تلك الخصوصية القطرية ومن تقارب مشاغلها بالمشاغل العربية يتولّد توليف الأنموذج التونسي الذي يبقى بذلك مصدر إغناء للوعي العربي.
بماذا يمكن أن تفيدنا هذه الوثيقة الموصولة بتجربة النخب التونسية الحديثة مع الإسلام؟ وماذا يمكن أن نستفيده من قراءتها اليوم ؟
ما سجلته الوثيقة من أفكار وآراء أدلت بها نخب تنتمي إلى حزب انفرد بالحكم منذ ما يزيد عن عشر سنوات دون أن يسمح بمنازعته قانونيا أو جماهيريا أي طرف سياسي آخر. أشرف على سير اجتماعات تلك الندوة الفكرية وأدار حوارها ونظّم سيرها" أحمد بن صالح"، المثقف والمناضل النقابي الذي أصبح الرجل الثاني في الدولة والحزب.
ضمّ اللقاء أكثر من خمسة وعشرين شخصية تونسية منها ثلاثة فقط من أعيان رجال الفقه على رأسهم مفتي الجمهورية. مشارك واحد من خارج تونس دعي ضيفا ليساهم في إحدى حلقات الندوة هو الداعية الإخواني والشيخ الأزهري "محمد محمود الصوّاف" أصيل بلاد الموصل.
أوّل ما يلفت النظر في مداولات هذا اللقاء المتميز أنّه طرح للحوار العلني قضية ما كانت لتطرح للنقاش بين نخب منضوية في حزب اعتاد أن يتابع بانضباط "توجيهات" زعيمه الوحيد خاصة ما تعلّق منها بالقضايا المصيرية من قبيل الإسلام والتنمية والعلاقة بالمشرق العربي أو الحضارة الغربية. أن يطرح موضوع "الإسلام و النهضة الحديثة" لحوار حر في أعلى مستويات الحزب الحاكم دليل على أن التوجهات السابقة المعتمدة في الموضوع أصبحت بحاجة إلى مراجعة علنية وأكيدة.
إلى جانب هذا فقد كانت تركيبة الحاضرين ونوع مداخلاتهم بالغة الأهمية. من ناحية كان ممثلو التوجه "الفقهي" أقلية غير أن كلماتهم جاءت طويلة، مثيرة للنقاش ومتفقة فيما بينها في تصورها العام. ما جمع بين هؤلاء هو اعتبار أن تخلّف المسلمين راجع إلى العادات والتقاليد الطارئة والعاهات الاجتماعية والذهنية المتولدة من" إهمال حقيقة الإسلام ومبادئه العليا". لذلك وقع رفض القول بأن حالة المسلمين المتردية حجّةٌ على الإسلام بل اعتُبر الإسلام حجةً عليهم لأنه ظل فاعلا ومددا" في المواقف الجهادية ومصارعة الاستعمار وتحقيق الأهداف القومية".
مقابل هذا الطرح جاءت مداخلات عموم المثقفين قصيرة متنوعة في أهميتها لكنها لا تلتقي على رؤية واحدة تجمع بينها. ردّ صنف أوّل بوضوح على رجال الفقه حاملي لواء الهويّة الإسلامية منكرا عليهم إعراضهم عن واقع الحضارة والتقدّم اللذين لا مراء فيهما و لا صلة لهما "بالإسلام أو ما عرفناه منه كما أُوِّل ودُوِّن في كتب الفقه".
واقعية هذا الصنف من المثقفين المختلفين مع خطاب رجال الفقه تجعلهم ينكرون بوضوح إمكانية تجدد الإسلام وقيمه. لذلك لا يترددون في القول: إذا كانت في الإسلام هذه المبادئ التي وقع التنويه بها (العقل والحرية والتضامن)" فلماذا تَرك[الإسلام ] هذه العادات تتغلغل في النفوس؟ وإذا كانت هذه المبادئ موجودة فهل هي بارزة للعيان تفرض نفسها؟ ...ولماذا لم يدع إليها رجال الدين؟". ثم يصوغ مثقفو الواقعية ذات الاعتراض بصورة أخرى معتمدين على قيمة التقدم التي تتعارض مع مقولة العودة إلى الأصل، ذلك أن الرجوع إلى الماضي قصد استعادة الجوهر الصافي مُحال لأن السعي إلى التقدّم منافٍ "للنظر إلى الوراء".
صنف ثان من المثقفين ابتعد عن المقولتين السابقتين المتناقضتين اللتين تحاولان الإجابة عن سؤال: هل الإسلام معرقل للنموّ أم أنّ هناك عوامل أخرى تفسد البشر والديانات في آن؟ إنه يرى أن المشكلة مثنّاة وتتطلّب استعمال منظور آخر. المشكلة في تقدير هذا الصنف من المثقفين التونسيين نتيجة ركود ذهني أفرز مظاهر تخلّف اقتصادي واجتماعي وسياسي لم تزدها معضلة المؤسسة الدينية، تلك الحاضرة الغائبة، إلاّ حدّة. يقوم هذا التشخيص على أنه لا وجه للحديث عن الإسلام بمعزل عن المسلمين، ذلك أن الإسلام بالمسلمين ولا يمكن تصوّر مسلمين دون إسلام.
ما يؤكد هذا التلازم الجدلي هو أن الإسلام في فترة فُتوّته كان متجاوزا للأحداث لأن المسلم كان مستوعبا عصره وقضاياه ومتجاوزا لهما. أما في حالة الضعف والتراجع فإن المسلمين لا يواكبون المدنية الحديثة وإنما يزامنونها عن بُعد فلا يكون الإسلام بذلك " الدافع والمحرّك لها". من جهة أخرى فإن المعضلة المؤسساتية في الإسلام تجعل أصحاب الحل والعقد من المسلمين لا يواجهون القضايا المستجدة. إنهم يعتذرون عن الالتزام بإجابات واضحة يقدمونها، لأنهم لا يعترفون بوجود " كنيسة في الإسلام وعندما يأتي من يريد أن يلتمس الحل لهذه المشاكل ينتصبون متكلمين باسم الإسلام مدافعين عنه".
ركّز صنف ثالث من المثقفين تحليله على خطورة العدو الخارجي وفداحة تهديده للهوية والأصالة اللذين يتعذر إنشاء فضاء وطني حديث دونهما. لشرح مكوّنات هذه الأصالة التي لا صلة لها بالتغنّي بالماضي يتبيّن أنها تشمل ثلاثة عناصر أساسية هي الدين واللغة العربية وترابط فكر النخب والقيادة بتصورات الجماهير وعقائدهم.
إذا توقفا عند هذا الحد من القراءة فإنّ هذا النوع من اللقاء على ندرته وبفضل خصوصية الأنموذج التونسي يمكن أن يساعد عربيا على إيضاح جانب من إشكالية المثقف العربي في علاقته بالإسلام.
لقد أثبتت القرائن العديدة الواردة في الوثيقة أن تلك العلاقة تظل إشكالية أي أنها لا تحتمل صورة واحدة نهائية. ما يدعم هذا أن المثقفين المشاركين لم يجتمعوا على رأي واحد. أكثر من ذلك، لقد تأكد أن كل واحد منهم قبل أن يكون علمانيا أو ليبراليا أو قوميا هو حامل لذاكرة تاريخية لا يمكن أن ينفصل عنها وإن كانت ذاكرته تلك، ككل ذاكرة، انتقائية بالضرورة.
من ثم فإن أسوأ الحلول هو الحل الذي يعتمد الرؤية الكليانية التي تدّعي أنها قادرة، بمفردها، على بناء النموذج الأمثل. إنها بذلك تقصي كل فرص الإثراء المتبادل للنخب الناتج عن تنسيب الرؤى وإيقاظ ما تغاضت عنه ذاكرة كل طرف عند بناء موقفه من الدين أو من اللغة أو من مؤسسات المجتمع والدولة.
لقد أورث الانسحاب المبكّر للفقيه في الأنموذج التونسي استبعادا له في فترة لاحقة عن مشروع الدولة الحديثة القطرية لكون بُناتها لم يروا جدوى من البحث عن مشروعيتهم في المصادر الإسلامية. محصلة هذا الجانب من أنموذج قطري هو أن الاختيارات الكبرى التي لا تعتمد حوارا حقيقيا أو مشاركة فعلية تظل، أيا كانت درجة تقدميتها أو إنسانيتها، مهددة باللافاعلية والانتكاس لأنها لم تنجم عن وفاق فلم تكتسب شرعية تاريخية. هذا المعنى المستفاد من تجربة استبعدت فيها نخبةٌ مثقفة حداثية رجالَ الفقه وخطاب الهوية يظل قائما حتى بالنسبة إلى الذين يصدرون اليوم في مقارباتهم عن الهوية الثقافية والأصالة الدينية.
هؤلاء لا بد أن يذكروا أنهم، كنظرائهم من المثقفين دعاة الوحدة القومية أو العدالة الاجتماعية أو الديمقراطية، لا يمكنهم الانفراد بادعاء البديل أو التملص، إن وصلوا غدا إلى مراكز القرار والسلطة، من قوانين الاجتماع الإنساني وضوابط الحياة السياسية المدنية.
------------------------------
كاتب وجامعي تونسي.
مدارك
22-04-2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.