تتواصل سلسلة المحاكمات للمتورطين طيلة فترة حكم الرئيس السابق، والغريب أنّ سلوكات البعض وتصرفاتهم اليوم لا تؤشّر على فهم أنّ منطق المُحاكمة ليس ماضويّا فقط بل هو منطق تاريخي ممتدّ من الماضي إلى المستقبل مرورا بالحاضر، منطق لا يستثني أحدا من المخطئين أو المجرمين طال الزمن أم قصر. البعض تغيب عليه هذه الحقيقة ولا يتّعظ من دروس الماضي القريب ، تأخُذُهُ الكبرياء ويهزّه الاستعلاء حتى يتناسى أو يتجاهل حقيقة الزلزال الّذي ضرب بلادنا يوم 14 جانفي والّذي نسف جذور الظلم والتعسّف والطغيان وفتح السبيل على مصراعيها لكي تحيا البلاد بآفاق واسعة لوقف كلّ التجاوزات والخروقات والانتهاكات. معطيات الواقع الّذي نعيشهُ بما فيها من أحداث وممارسات وتصريحات ومواقف معلنة أو خفيّة تؤكّد انخراط أطراف عديدة في دوّامة التجاوز والخرق والانتهاك، دوّامة الأجندات الفئويّة والحزبيّة الضيّقة والخطيرة في آن على مسار انتقال البلاد إلى ما رسمتهُ ثورة الشباب والمهمّشين والمعطلين عن العمل. هذه الدوّامة تأتينا يوميّا بحقائق مفزعة ومرعبة إلى درجة أنّنا نشعر وكأنّ البعض يرغب في اقناعنا بأن لا شيء تغيّر برغم الضحايا والشهداء والتضحيات ، ويدفع هؤلاء بالأحداث دفعا لكي تتأزّم الأوضاع وتتخلّف البلاد عن تحقيق التطلعات المشروعة في الديمقراطيّة والعدالة والحريّة. نعم، لا شيء تغيّر، مظاهر وممارسات الأمس من محاصرة للعمل المدني والسياسي وسجن واعتقال وتعذيب وقمع وانتهاك لحرمات الناس تعود إلينا اليوم بلبُوس جديد وتحت عناوين جديدة منها التخويف وبثّ الإشاعات ومنها الخطيرة جدّا، ومنها كذلك الدعوة إلى الكراهيّة والبغضاء والحقد، ومنها كذلك الدسّ والتآمر في الكواليس على حق المواطن في الأمن والاستقرار والحياة الطبيعيّة المعتادة والمألوفة، تآمر على وحدة التونسيين والتونسيات عبر استنهاض غول القبليّة والعروشيّة والفتن الاجتماعية والعقائديّة وغيرها من أتون الجهل والتخلّف والعماء، تآمر على إرادة المواطنين وحقّهم في اختيار من ينوبهم في ظروف من الشفافيّة والعدالة والنزاهة ، تآمر على قوت الفقراء والمعدمين والمحرومين وتهديد لأرزاق الناس واستباحة لحرماتهم بالليل والنهار وانتهاكا لخصوصياتهم الشخصية كذبا وزورا وبُهتانا. وحتى مُحاسبة المتورطين خلال العشرين سنة الماضية يخضعُ إلى انتقائيّة عجيبة تُذكّرنا بما كنّا نعلمهُ من تعمّد لمنطق المُحاصصة والاسترضاء وحماية البعض على حساب آخرين والتضحية بالبعض الآخر تحت عنوان أكباش الفداء. نعم، حتّى هؤلاء الّذين يتحرّكُون اليوم في الليل أكثر من النهار، وفي الكواليس أكثر من الفضاءات العامة، وفي السر لا في العلن ، هؤلاء المتآمرون على قوت الشعب وأمنه وحريته في الاختيار وحقه في الكرامة والعيش في طمأنينة، هؤلاء أيضا سيأتي يوم حسابهم، يوم تنكشف خفاياهم وخباياهم ودسائسهم ومآمراتهم وجرائمهم تماما كما انكشفت «دولة الفساد» بعد 23 سنة كاملة من ركوبها على ظهور العباد.. نعم حتّى هؤلاء سيُحاسبون... سيُحاكمون ولو بعد حين... ستنهار كلّ المآمرات وستنكشف كلّ الدسائس، وحتما ستسقُط الأقنعة وورقات التوت وستنكشفُ كلّ العورات عن بكرة أبيها.